أحدهما مزيّة، فالأمر دائر بين تقييد إطلاقات كثيرة في مقام البيان فيأخبار التخيير بأخبار الترجيح، وبين حمل الأوامر الواردة في أخبارالترجيح على الاستحباب بقرينة أخبار التخيير، ولا يمكن الذهاب إلى الأوّل،إذ قلّما يتّفق أن يخلو أحد الخبرين عن إحدى المرجّحات بكثرتها، لأنّ كونالخبرين في جميع سلسلة سندهما متساويين في العدالة والفقاهة والورعوالوثاقة وصدق الحديث ومضمونهما موافقا للكتاب والعامّة أو مخالفا لهمومشهورا بين الأصحاب أو غير مشهور، نادر جدّا، فتقييد أخبار التخييربأخبار الترجيح مستلزم لحمل أخبار التخيير مع كثرتها على فرد نادر، فلابدّمن حمل الأوامر الواردة في الترجيحات على الاستحباب، حفظا لإطلاقأخبار التخيير.
واُخرى: بأنّ الاختلافات الكثيرة في نفس أخبار الترجيح قرينة على أنّهبصدد بيان حكم استحبابى، لا وجوبي، فإنّها تختلف في ذكر مقدارالمرجّحات، ففي بعضها ذكر الترجيح بمخالفة العامّة فقط، وفي بعضها بموافقةالكتاب كذلك، وذكر في بعضها مرجّحات كثيرة، على أنّ الأخبار المشتملةعلى المرجّحات الكثيرة تختلف في المرجّح الأوّل، ففي بعضها جعل الترجيحبالأعدليّة والأفقهيّة أوّل المرجّحات، وفي بعضها الآخر جعل الاشتهار بينالأصحاب أوّلها.
والأخبار التي هذا حالها لا تناسب الوجوب، فلابدّ من حملها علىالندب.
والتحقيق عدم ورود الإشكالين.
أمّا الإشكال الأوّل: فلأنّ جميع أخبار التخيير لا تزيد على سبعة كما عرفتسابقا(1)، وقال بعض الأعلام: كلّها ضعيفة، بعضها سندا وبعضها دلالةً، فليجوز التمسّك بواحد منها(2).
وكلامه وإن كان منظورا فيه عندنا، لأنّ في أخبار التخيير ما يتمّ سندودلالةً(3)، إلاّ أنّه لا يتجاوز عن واحد أو اثنين، فلا يلزم من تقييدهما بأخبارالترجيح حمل أخبار كثيرة على فرد نادر. هذا أوّلاً.
وثانيا: تنحسم مادّة الإشكال بأنّه وارد لو كانت المرجّحات المربوطةبالأخبار المتعارضة كثيرة كما توهّم، والحقّ أنّها لا تتجاوز عن اثنتين أوثلاث، كموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، أو بضميمة الشهرة الفتوائيّة.
وأمّا سائر المرجّحات ممّا ورد في المقبولة فهي مربوطة بباب آخر غير بابتعارض الخبرين كما سيتّضح(4).
ولا ريب في أنّ تقييد أخبار التخيير بهذه القيود الثلاثة لا يستلزم حملهعلى فرد نادر، لأنّ كثيرا من موارد الخبرين المتعارضين يكون من قبيلالمتكافئين، أعني لا يكون بينهما ترجيح من حيث موافقة الكتاب ولا منحيث مخالفة العامّة ولا من حيث موافقة الشهرة، فأين الحمل على فرد نادر؟!
وأمّا إثبات أنّ غير هذه المرجّحات الثلاثة مربوط بباب آخر غير بابتعارض الخبرين فهو يحتاج إلى التأمّل في الخبرين المشتملين على أزيد منالمرجّحات الثلاثة، وهما: مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة، فنقول:
أمّا المقبولة: فهي ما رواه المشايخ الثلاثة في الكافي والفقيه والتهذيب
- (2) مصباح الاُصول 3: 423.
- (3) هذا ينافي ما تقدّم منه«مدّ ظلّه» في ص460. م ح ـ ى.
- (4) سيتّضح في ص495 ـ 499.
ج6
بأسانيدهم عن عمر بن حنظلة.
البحث حول سند المقبولة
وسند الكليني إليه هكذا: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّدبن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحسين،عن عمر بن حنظلة.
ولا إشكال في هذا السند إلاّ في عمر بن حنظلة، فإنّه مجهول، لعدم ورودقدح ولا مدح فيه.
والمشهور وإن عملوا بروايته هذه حتّى اشتهرت بالمقبولة، إلاّ أنّ انجبارضعف السند بالشهرة لا دليل عليه إلاّ نفس المقبولة، فلا يمكن جبر سندهبالشهرة الذي(1) دليله نفسها(2)، لأنّه دور.
نعم، لو جبر ضعف سندها بطريق آخر لأمكن الاعتماد عليها في انجبارضعف سند سائر الأخبار بالشهرة.
إن قلت: وإن لم يجبر ضعف سندها بتلقّى الأصحاب إيّاها بالقبول، إلاّ أنّصفوان بن يحيى من أصحاب الإجماع، فروايته عن عمر بن حنظلة دليل علىكونه ثقة.
قلت: لا يكون نقل أصحاب الإجماع موجبا لانجبار السند، فإنّ روايتهمعن شخص لا تدلّ على وثاقته عندنا، وإن اشتهر ذلك في الكلمات.
والذي يهوّن الخطب أنّ اثنين وعشرين رجلاً يروون في الأبواب المختلفةعن عمر بن حنظلة وكان هو اُستاذهم في الرواية مع أنّ تسعة عشر بل
- (1) تذكير الموصول لأجل كونه صفةً لـ «جبر» لا لـ «الشهرة». م ح ـ ى.
- (2) الضمير يعود إلى «المقبولة». م ح ـ ى.
(صفحه482)
عشرين منهم من الثقات الأجلاّء، بل بعضهم من أصحاب الإجماع، وروايةأشخاص كثيرة ثقات عن شخص واحد موجبة للاطمئنان بكونه ثقة وإن لميذكر في كتب الرجال بمدح ولا قدح كما قال به سيّدنا الاُستاذ آية اللّهالبروجردي نحرير فنّ الرجال في المتأخّرين.
على أنّه نقل(1) عن النجاشي أنّه قال بكون عمر بن حنظلة ثقةً.
أضف إلى ذلك أنّ الصدوق ـ الذي روى المقبولة في «من لا يحضرهالفقيه» ـ قال في مقدّمة هذا الكتاب: قصدت إيراد ما اُفتي به وأحكم بصحّتهوأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي(2).
فعلى هذا لو عبّرنا عن الرواية بموثّقة عمر بن حنظلة بل بصحيحته مكانالمقبولة لم يكن جزافا.
فلا ينبغي الإشكال في سندها.
البحث حول متن المقبولة
وأمّا متنها: فعن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللّه عليهالسلام عن رجلين منأصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاةأيحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت،وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا، وإن كان حقّا ثابتا له، لأنّه أخذه بحكمالطاغوت، وقد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوآاْ إِلَىالطَّـغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِى»(3).
- (1) إنّي لم اُلاحظ رجال النجاشي لإثبات صحّة هذا النقل وسقمه. منه مدّ ظلّه. أقول: أنا لا حظته ولم أجد فيهشيئاً يدلّ على صحّة هذا النقل. م ح ـ ى.
- (2) من لا يحضره الفقيه 1: 3.
ج6
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] من كان منكم ممّن قد روىحديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قدجعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّهوعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه.
قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونالناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم(1)؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما،ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما علىالآخر؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما بهالمجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليسبمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمربيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلىرسوله، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن تركالشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلكمن حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكما(2) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ بهويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.
- (1) هل المراد بالاختلاف في الحديث: الاختلاف في أصل وجوده، أو في معناه، أو أنّ كلاًّ منهما استند فيحكمه إلى حديث غير ما استند إليه الآخر؟ الظاهر هو الأخير. منه مدّ ظلّه.
- (2) قال المجلسي رحمهالله : قوله عليهالسلام : «عنكما» أي الباقر والصادق عليهماالسلام ، وفي الفقيه: «عنكم» وهو أظهر. مرآةالعقول 1: 225، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.