(صفحه54)
المتيقّن لا به مقيّداً بالزمان السابق، وإلاّ كان الموضوع في زمن الشكّ غيره فيزمن اليقين، فلا يجري الاستصحاب أصلاً.
وأمّا كون متعلّق اليقين في السابق لا يضرّ عرفاً في صحّة إسناد النقض إلىاليقين.
الثاني: أنّ الظاهر من الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي، لالتقديري، لأنّ قوله في الصحيحة المتقدِّمة: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه»مرتبط بالكبرى التي بعده، أي قوله: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» سواءجعل صغرى لها ـ كما هو الظاهر ـ أو توطئة لذكرها، ولا شبهة في أنّ المرادباليقين في «إنّه على يقين من وضوئه» هو اليقين المتعلّق بالوضوء في الزمانالسابق، لا اليقين المقدّر المعتبر، فلابدّ أن يُراد من اليقين في الكبرى هو هذاليقين لا التقديري، لعدم صحّة التفرقة بينهما، ضرورة عدم صحّة أن يقال:«إنّه على يقين من وضوئه في الزمان السابق ولا ينقض اليقين التقديريبالشكّ».
الثالث: أنّ مناسبة الحكم والموضوع إنّما تقتضي أن لا ينتقض اليقينالواقعي الذي له إبرام واستحكام بالشكّ، لا اليقين التقديري الاعتباري.
الرابع: أنّ قوله: «أبداً» لتأبيد الحكم المتقدّم، أي عدم نقض اليقين بالشكّمستمرّ ومؤبّد، فلابدّ أوّلاً من جعل الحكم ثمّ إفادة تأبيده بلفظ «أبداً» الذيهو قائم مقام الإطلاق، فينحلّ عرفاً هذا الحكم المتقيّد بالتأبيد إلى أمرين:أصل الحكم القابل للتأبيد وعدمه، وتأبيده واستمراره، فلو اعتبر اليقين فيتمام ظرف الشكّ، أي من أوّل وجوده إلى آخره يقدّر اليقين فنسب إليه النقضفلا مصحّح للتأبيد، فإنّ الأمر المستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلىآخره لا يصحّ اعتبار الاستمرار فيه ثانياً، فإنّ الشيء المستمرّ لا يقع فيه
ج6
استمرار آخر، هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ، وإن اعتبر في أوّلزمان الشكّ واُريد بيان تأبيد حكمه بلفظ «أبداً» لا مصحّح لنسبة النقض إلىما بعد ظرف التقدير بناءً على تحقّقه.
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الظاهر من تأبيد الحكم أنّ اليقين المتعلّق بأمرٍ سابقعلى الشكّ لا ينقض في ظرف الشكّ من أوّل زمانه إلى آخره.
الخامس: أنّ قوله عليهالسلام في ذيل الصحيحة: «وإنّما ينقضه بيقين آخر» وإنكان ظاهراً في جعل الحكم، إلاّ أنّ هذا الظاهر لا يكون مراداً، ضرورة امتناعجعل إيجاب العمل على طبق اليقين، فإنّه بمنزلة جعل الحجّيّة والكاشفيّة له،فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدّم، فيكون تأكيدلاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر، فيفهم عرفاً من هذه الغاية أنّ المتكلِّماعتبر ثلاثة اُمور: اليقين السابق، والشكّ المستمرّ، واليقين المتأخّر، فقال: إنّحكم اليقين بالأمر السابق مستمرّ في زمان الشكّ ولا يرفع اليد عنه إلى زماناليقين بخلافه، وأمّا تقدير اليقين في ظرف الشكّ فلا يساعد عليه فهم العرفعند ملاحظة الرواية، ويؤيّده أنّه لو اعتبر في ظرف الشكّ يقيناً غير ما تعلّقبالحالة السابقة لقال في الذيل: «وإنّما ينقضه بيقين ثالث» مكان «بيقين آخر».
وبالجملة: إنّ التأمّل في الصحيحة صدراً وذيلاً ممّا يشرف الفقيه بالقطع بأنّاليقين في الكبرى هو اليقين المحقّق الفعلي المتعلّق بالشيء في الزمان السابق، لالمقدّر المفروض في زمان الشكّ(1).
هذا ما أورده الإمام«مدّ ظلّه» على المحقّق الهمداني رحمهالله مع توضيح منّا في بعضفقراته.
لكن يمكن المناقشة في الإيراد الأوّل بعدم تسليم صحّة إسناد النقض عند
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 91.
(صفحه56)
العرف إلى اليقين المتعلّق بالحالة السابقة.
وفي الإيراد الرابع بأنّه خلط بين الحكم والموضوع، فإنّ تقدير اليقين في تمامظرف الشكّ يوجب استمرار الموضوع، وهو «نقض اليقين بالشكّ»، وقوله:«أبداً» جيء به لتأبيد الحكم لا لتأبيد الموضوع، أي «نقض هذا اليقين المعتبرفي تمام ظرف الشكّ به ممنوع أبداً»، وبعبارة اُخرى: تقدير اليقين في تمام ظرفالشكّ إنّما هو لتصحيح إسناد النقض إليه، ولا يستفاد منه استمرار الحكم،والشاهد على هذا أنّه لو لم يكن في الكلام حكم كأن يقال: «هل يجوز نقضاليقين بالشكّ» لابدّ على مذهب المحقّق الهمداني من اعتبار اليقين في تمام ظرفالشكّ، وأمّا قوله: «أبداً» فإنّما هو لتأبيد الحكم(1) ولا يرتبط بالموضوع، فليلزم وقوع استمرار آخر في الشيء المستمرّ كما توهّم«مدّ ظلّه».
ولكن مع ذلك أكثر إشكالات(2) الإمام «مدَّ ظلّه» واردة على المحقّقالهمداني رحمهالله ، فما استدلّ به لإثبات التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ فيالرافع في حجّيّة الاستصحاب مردود.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في تقريبه الأوّل فجوابه أنّ الفرق بين العلموالقطع وبين اليقين ـ بأنّ الثالث يفهم منه لزوم الجري على طبقه عند تلفّظهوتصوّره دون الأوّلين ـ واضح البطلان، والتعبير باليقين في جميع أخبارالاستصحاب دون العلم والقطع لا يكون مؤيّداً له، إذ لا إشكال في أنّه لو قال:«لا ينقض العلم بالشكّ» لكان صحيحاً، فهذه الألفاظ الثلاثة مترادفة، بل عند
- (1) كما عبّر به الإمام الخميني نفسه«مدّ ظلّه» في إيراده الرابع على المحقّق الهمداني رحمهالله . م ح ـ ى.
- (2) وهي الإشكال الثاني والثالث والخامس. م ح ـ ى.
ج6
تصوّر القطع يخطر ببال الإنسان لزوم الحركة على وفقه، لأنّ أذهاننا مأنوسةبحجّيّته ولزوم العمل على طبقه، وذلك لأنّ الاُصوليّين عبّروا في كتبهم بأنّالقطع حجّة، ولم يعبّروا بأنّ اليقين حجّة.
على أنّ لزوم الجري على طبق اليقين أثر من آثاره وحرمة نقضه بالشكّأيضاً أثر آخر له، وكلا الأثرين يكونان في عرض واحد لا تقدّم لأحدهمعلى الآخر، فكيف ترتّب الأوّل على نفس اليقين الفاقد لكلّ أثر، ثمّ ترتّبالثاني عليه حال كونه واجداً للأثر الأوّل؟
وكون لزوم الجري على وفقه أثراً عقليّاً وحرمة نقضه بالشكّ أثراً شرعيّلا يوجب التقدّم والتأخّر وترتّب الثاني على اليقين الواجد للأوّل.
أضف إلى ذلك: أنّه كما عرفت استشكل على الشيخ بأنّ المراد باليقين ليسهو المتيقّن، ثمّ قال: عناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن وبلحاظما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقّن، وقال أيضاً: يختصّ أخبار الباببما إذا كان المتيقّن ممّا يقتضي الجري العملي على طبقه، بحيث لو خلّي وطبعهلكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقّن، وهذا المعنى يتوقّف على أنيكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في عمود الزمان، ليتحقّق الجري العملي علىطبقه، فإنّه في مثل ذلك يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن ويصدقعليه نقض اليقين بالشكّ وعدم نقضه به، بخلاف ما إذا لم يكن للمتيقّن اقتضاءالبقاء في سلسلة الزمان.
وهل هذا البيان منه رحمهالله إلاّ كرٌّ على ما فرَّ؟ فإنّه قال بعدم كون اليقين بمعنىالمتيقّن ثمّ جعله أساساً لصحّة ورود النقض على اليقين، فكان القول بكونهبمعنى المتيقّن أولى، لعدم استلزامه ذلك التكلّف الذي ارتكبه.
وأمّا تقريبه الثاني: فجوابه أنّا لا نسلّم كون زمان الشكّ دائماً ممّا تعلّق به
(صفحه58)
اليقين في زمان حدوثه وإن كان الشكّ من موارد الشكّ في الرافع، فإنّالوجدان قاضٍ بأنّ مَن توضّأ أوّل الصبح يكون متيقّناً بالطهارة وبدوامها ملم يتحقّق ناقض، فاليقين بالبقاء مقيّد بعدم تحقّق الحدث، فلا يكون زمانالشكّ في الحدث ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه.
تحقيق الحقّ في الشكّ في الرافع والمقتضي
أقول: اليقين في قوله عليهالسلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ» ظاهر في اليقين الحقيقيالمتعلّق بالحالة السابقة، وظاهر أيضاً في كونه بمعناه لا بمعنى المتيقّن، والحقّشموله للشكّ في الرافع والمقتضي كليهما، ولا إشكال في صحّة إسناد النقض إلىاليقين مع حفظ هذين الظهورين.
بيان ذلك: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية(1)، وأكمله سيّدنا الاُستاذالأعظم الإمام «مدَّ ظلّه» في الرسائل بتوضيحاته المفيدة، حيث قال:
اعلم أنّ اليقين قد يلاحظ بما أنّه صفة قائمة بالنفس ـ كالعطش والجوعوالخوف والحزن من الصفات القائمة بها ـ من غير لحاظ إضافته إلى الخارج،وقس عليه الشكّ والظنّ، وقد تلاحظ بما أنّها مضافة إلى الخارج وأنّ اليقينكاشف كشفاً تامّاً عن متعلّقه والظنّ ناقصاً والشكّ غير كاشف أصلاً، بليضاف إلى الخارج إضافة ترديديّة.
لا إشكال في أنّ اليقين بحسب الملاحظة الاُولى لا يكون ممتازاً عن الظنّوالشكّ بالإبرام والاستحكام وعدمهما، بل الإبرام والاستحكام بحسب هذهالملاحظة إنّما يكون في كيفيّة قيامها بالنفس بحسب مباديها المحصّلة لها فيها،فقد تكون مبادئ حصول الشكّ قويّة بحيث لا يزول بسهولة وتكون مبادئ