(صفحه50)
وأمّا عدم حجّيّته في الشكّ في المقتضي فلعدم صدق النقض عليه، فلا يعمّهقوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ».
وتوضيح ذلك: هو أنّ إضافة النقض إلى اليقين إنّما تكون باعتبار ما يستتبعاليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقّن والعمل على وفقه، وليست إضافةالنقض إلى اليقين باعتبار صفة اليقين والحالة المنقدحة في النفس بما هي هي،بداهة أنّ اليقين من الاُمور التكوينيّة الخارجيّة وقد انتقض بنفس الشكّ، فلمعنى للنهي عن نقضه.
وليس المراد من عدم نقض اليقين عدم نقض الآثار والأحكام الشرعيّةالمترتّبة على وصف اليقين، فإنّه لم يترتّب حكم شرعي على وصف اليقين بمهو هو، وعلى فرض أن يكون لليقين أثر شرعي فليس المراد من قوله عليهالسلام فيأخبار الباب: «لا تنقض اليقين بالشكّ» نقض أثر اليقين، فإنّ ذلك أجنبيّ عنمعنى الاستصحاب، فإضافة النقض إلى اليقين لا يمكن أن تكون بلحاظ نفسوصف اليقين، بل إنّما تكون بلحاظ ما يستتبع اليقين من الجري على ميقتضيه المتيقّن حكماً أو موضوعاً.
لا أقول: إنّ المراد من اليقين المتيقّن، بحيث استعير للمتيقّن لفظ اليقينويكون قد اُطلق اليقين واُريد منه المتيقّن مجازاً، فإنّ ذلك واضح الفساد، بداهةأنّه لا علاقة بين اليقين والمتيقّن، فاستعمال أحدهما في مكان الآخر كاد أنيلحق بالأغلاط.
فما يظهر من الشيخ قدسسره في المقام: من أنّ المراد من اليقين نفس المتيقّن ممّلايمكن المساعدة عليه، ولابدّ من توجيه كلامه بما يرجع إلى ما ذكرنا: من أنّالمراد من نقض اليقين نقضه بما أنّه يستتبع الحركة على وفق المتيقّن، فأخذاليقين في الأخبار إنّما يكون باعتبار كونه كاشفاً وطريقاً إلى المتيقّن، لا بما أنّه
ج6
صفة قائمة في النفس، فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن.
بل يمكن أن يُقال: إنّ شيوع إضافة النقض إلى اليقين دون العلم والقطع إنّميكون بهذا الاعتبار، فإنّه لم يعهد استعمال النقض في العلم والقطع، فلا يقال:«لا تنقض العلم والقطع» وليس ذلك إلاّ لأجل أنّ العلم والقطع غالباً يكونإطلاقهما في مقابل الظنّ والشكّ، وهذا بخلاف اليقين، فإنّ إطلاقه غالباً يكونبلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقّن والعمل على طبقه،فالنظر إلى اليقين غالباً يكون طريقاً إلى ملاحظة المتيقّن، بخلاف النظر إلىالعلم والقطع.
وبالجملة: لا إشكال في أنّ العناية المصحّحة لورود النقض على اليقين إنّمهي باعتبار استتباع اليقين الجري العملي على المتيقّن والحركة على ما يقتضيه،فيكون مفاد قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو أنّ الجري العملي الذيكان يقتضيه الإحراز واليقين لا ينقض في الشكّ في بقاء المتيقّن.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك أنّ أخبار الباب إنّما تختصّ بما إذا كان المتيقّنممّا يقتضي الجري العملي على طبقه، بحيث لو خلّي وطبعه لكان يبقى العملعلى وفق اليقين ببقاء المتيقّن، وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّناقتضاء البقاء في عمود الزمان، ليتحقّق الجري العملي على طبقه، فإنّه في مثلذلك يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن ويصدق عليه نقض اليقينبالشكّ وعدم نقضه به، بخلاف ما إذا لم يكن للمتيقّن اقتضاء البقاء في سلسلةالزمان، فإنّ الجري العملي بنفسه ينتقض ولا يصحّ ورود النقض على اليقينبعناية المتيقّن، لأنّ المتيقّن لا يقتضي الجري العملي حتّى يكون رفع اليد عنهنقضاً لليقين بالشكّ، والشكّ في اقتضاء المتيقّن للبقاء يوجب الشكّ في صدقالنقض عليه، فلا يندرج في عموم قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ».
(صفحه52)
وبتقريب آخر: يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ على أن يكون زمانالشكّ ممّا قد تعلّق اليقين به في زمان حدوثه، بمعنى: أنّ الزمان اللاحق الذييشكّ في بقاء المتيقّن فيه كان متعلّق اليقين عند حدوثه، وهذا إنّما يكون إذكان المتيقّن مرسلاً بحسب الزمان لكي لا يكون اليقين بوجوده من أوّل الأمرمحدوداً بزمان خاصّ ومقيّداً بوقت مخصوص، وإلاّ ففيما بعد ذلك الحدّ والوقتيكون المتيقّن مشكوك الوجود من أوّل الأمر، فلا يكون رفع اليد عن آثاروجود المتيقّن من نقض اليقين بالشكّ، لأنّ اليقين ما كان يقتضي ترتيب آثاروجود المتيقّن بعد ذلك الحدّ، فكيف يكون رفع اليد عن الآثار من نقض اليقينبالشكّ؟
ألا ترى أنّه لو علم أنّ المتيقّن لا يبقى أزيد من ثلاثة أيّام ففي اليوم الرابعلا يقال: انتقض اليقين بالوجود بيقين آخر بالعدم، فإنّ اليوم الرابع ما كانمتعلّق اليقين بالوجود من أوّل الأمر حتّى يقال: انتقض اليقين بيقين آخر،وهذا بخلاف ما إذا حدث في اليوم الثالث أمر زماني ـ من مرض وقتل ونحوذلك ـ أوجب رفع المتيقّن، فإنّه يصحّ أن يقال: إنّه انتقض اليقين بالوجود بيقينالعدم.
وبالجملة: لا إشكال في أنّ العناية المصحّحة لإضافة النقض إلى اليقين إنّمهي لكون اليقين يقتضي الجري والحركة نحو المتيقّن، وهذا إنّما يكون إذا كانالمتيقّن ممّا يقتضي الجري والحركة على ما يستتبعه من الآثار الشرعيّةوالعقليّة، فلابدّ وأن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في الزمان الذي يشكّ فيوجوده ليقتضي ذلك، ولابدّ من إحراز اقتضائه للبقاء، فالشكّ في وجودالمتيقّن لأجل الشكّ في المقتضي لا يندرج في قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقينبالشكّ»(1)، إنتهى كلامه رحمهالله بطوله.
ج6
هذه تقريبات الأعلام في اختصاص حجّيّة الاستصحاب بالشكّ في الرافع.
نقد كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
ويرد على ما أفاده الشيخ الأعظم أنّ كون اليقين في الخبر بمعنى المتيقّنخلاف الظاهر، إذ اليقين والشكّ يكونان في عبارة واحدة، فكيف يجعل الأوّلبمعنى المتيقّن والثاني بمعناه لا بمعنى المشكوك، وكونه طريقيّاً لا يقتضي ذلك،ألا ترى أنّا إذا قلنا: «القطع حجّة» تكون الحجّيّة صفة للقطع لا للمقطوع؟لكونها بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة وليس المنجّز في باب القطع إلاّ نفس القطع،وأمّا المقطوع ـ كوجوب الصلاة ـ فهو المنجَّز ـ بالفتح ـ لا المنجِّز ـ بالكسر فالقطع مع كونه طريقيّاً في قولنا: «القطع حجّة» اُخذ في نفس هذه الجملةموضوعاً واُسند الحجّيّة إلى نفسه لا إلى المقطوع، فاليقين في المقام أيضاً كذلك،فإنّه مع كونه طريقيّاً في الخبر اُريد به نفسه لا المتيقّن.
نقد نظريّة المحقّق الهمداني رحمهالله في المسألة
وأمّا ما أفاده المحقّق الهمداني رحمهالله ـ من أنّ نسبة النقض باعتبار اليقينالتقديري في زمان الشكّ لا اليقين المتعلّق بالحالة السابقة ـ فأورد عليه سيّدنالاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّ ظلّه العالي» بوجوه خمسة:
الأوّل: عدم لزوم هذا التقدير في صحّة نسبته إليه، فإنّ اليقين المحقّق فيزمان الشكّ وإن تعلّق بالحالة السابقة، لكن تصحّ عند العرف نسبة النقض إليهويقال: هذا اليقين المتعلّق بالطهارة السابقة لا ينتقض بالشكّ ويبنى عليه فيزمان الشكّ، وذلك لأنّ الزمان ظرف للمتيقّن لا قيد له، فاليقين تعلّق بنفس
- (1) فوائد الاُصول 4: 373.
(صفحه54)
المتيقّن لا به مقيّداً بالزمان السابق، وإلاّ كان الموضوع في زمن الشكّ غيره فيزمن اليقين، فلا يجري الاستصحاب أصلاً.
وأمّا كون متعلّق اليقين في السابق لا يضرّ عرفاً في صحّة إسناد النقض إلىاليقين.
الثاني: أنّ الظاهر من الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي، لالتقديري، لأنّ قوله في الصحيحة المتقدِّمة: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه»مرتبط بالكبرى التي بعده، أي قوله: «ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» سواءجعل صغرى لها ـ كما هو الظاهر ـ أو توطئة لذكرها، ولا شبهة في أنّ المرادباليقين في «إنّه على يقين من وضوئه» هو اليقين المتعلّق بالوضوء في الزمانالسابق، لا اليقين المقدّر المعتبر، فلابدّ أن يُراد من اليقين في الكبرى هو هذاليقين لا التقديري، لعدم صحّة التفرقة بينهما، ضرورة عدم صحّة أن يقال:«إنّه على يقين من وضوئه في الزمان السابق ولا ينقض اليقين التقديريبالشكّ».
الثالث: أنّ مناسبة الحكم والموضوع إنّما تقتضي أن لا ينتقض اليقينالواقعي الذي له إبرام واستحكام بالشكّ، لا اليقين التقديري الاعتباري.
الرابع: أنّ قوله: «أبداً» لتأبيد الحكم المتقدّم، أي عدم نقض اليقين بالشكّمستمرّ ومؤبّد، فلابدّ أوّلاً من جعل الحكم ثمّ إفادة تأبيده بلفظ «أبداً» الذيهو قائم مقام الإطلاق، فينحلّ عرفاً هذا الحكم المتقيّد بالتأبيد إلى أمرين:أصل الحكم القابل للتأبيد وعدمه، وتأبيده واستمراره، فلو اعتبر اليقين فيتمام ظرف الشكّ، أي من أوّل وجوده إلى آخره يقدّر اليقين فنسب إليه النقضفلا مصحّح للتأبيد، فإنّ الأمر المستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلىآخره لا يصحّ اعتبار الاستمرار فيه ثانياً، فإنّ الشيء المستمرّ لا يقع فيه