(صفحه448)
وما ذهب إليه في معنى الدلالة التصديقيّة أيضاً فاسد، لأنّ دلالة اللفظ علىمعناه ـ سواء أراده المتكلّم أو لم يرده ـ مربوط باللغة، لا بتصديق المخاطب،والذي يرتبط بتصديقه إنّما هو أنّ هذا المعنى مراد للمتكلّم من اللفظ، فالدلالةالالتزاميّة تتوقّف على الدلالة التصديقيّة التي هي عبارة عن كون المؤدّىمرادا للمتكلّم.
فما ذهب إليه من وجه حجّيّة الخبرين المتعارضين في نفي الثالث لا يتمّ.
بيان الحقّ في وجه نفي الثالث بالمتعارضين
والتحقيق يقتضي أن يقال في وجهه: إنّ الدلالة المطابقيّة تسقط عن الحجّيّةعقلاً من حيث إثبات المدلول المطابقي، لأجل التعارض، وأمّا من حيث تفرّعالدلالة الالتزاميّة عليها فلا(1)، فالدلالة المطابقيّة حجّة عقلاً بالنسبة إلى حيثيّةوليست بحجّة بالنسبة إلى حيثيّة اُخرى.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الأصل في الخبرين المتعارضين المتكافئينهو التساقط في إثبات المدلول المطابقي، لا في نفي الثالث.
هذا إذا قلنا: إنّ دليل حجّيّة خبر الثقة هو بناء العقلاء لأجل الكشفوالطريقيّة.
وإن قلنا بأنّه الأدلّة اللفظيّة ـ كمفهوم آية النبأ والأخبار المتواترة ـ ففيكيفيّة دلالتها وجوه بالنظر إلى مقام الثبوت والإمكان، وإن كان بعضها مخالفللواقع إثباتاً:
الأوّل: أن تكون دالّةً على حجّيّة خبر الثقة إجمالاً، أي من دون أن يكونلها إطلاق تتعرّض به لحال التعارض، فتكون مهملةً بالنسبة إلى هذا الحال.
- (1) لأنّهما لا يتعارضان بالنسبة إليه، بل يتوافقان فيه. منه مدّ ظلّه.
ج6
فعليه فلا دليل على حجّيّة الخبرين المتعارضين أصلاً، فحكمهما هوالتساقط، بمعنى عدم وجود الدليل على حجّيّتهما.
الثاني: أن تكون مطلقةً.
وفي الإطلاق مسلكان:
أ ـ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من كون الإطلاق عبارة عن الشمولوالشياع والسريان بواسطة لحاظ المتكلّم وإرادته(1)، ونسب هذا إلى المشهورأيضاً(2).
ب ـ ما اخترناه من عدم دخل الشمول والسريان ولا لحاظ المتكلّم فيالإطلاق، بل الإطلاق إنّما هو بذات اللفظ، فإذا جعل المتكلّم الطبيعة موضوعللحكم وقال مثلاً: «أعتق رقبةً» يفهم منه الإطلاق، سواء لاحظ الشياعوالسريان في الأفراد أم لا.
نعم، لابدّ من تحقّق مقدّمات الحكمة، كي يستكشف بها أنّ المتكلّم جعلنفس الطبيعة موضوعا لحكمه(3).
فعلى الإطلاق اللحاظي ـ الذي اختاره صاحب الكفاية ـ فلابدّ من القولبالتخيير، فإنّ الشارع إذا قال: «صدّق العادل» ولاحظ أفراد خبر العادليكون قوله هذا حكما بحجّيّة كلّ ما كان مصداقا لخبر العادل، فإذا تعارضالخبران فإن قلنا بلزوم العمل على طبق كلّ منهما في هذا الحال أيضاً فهوتكليف بما لا يطاق، وإن قلنا بأنّا متعبّدون بصدورهما لا بالعمل بهما، فنطرح
- (1) أي لا يدلّ المطلق على الشمول بالوضع، بل بواسطة لحاظ المتكلّم. م ح ـ ى.
- (2) كفاية الاُصول: 287 و 288.
- (3) إن قلت: كيف يمكن الجمع بين كون الإطلاق بذات اللفظ وبين افتقاره إلى مقدّمات الحكمة مع أنّالحاكم بمقدمات الحكمة هو العقل، لا اللفظ؟!
قلت: إنّا نحتاج إلى مقدّمات الحكمة لأجل استكشاف جعل الطبيعة موضوعا للحكم في كلام المتكلّم،وأمّا بعد الاستكشاف فاللفظ هو الذي يدلّ على نفس الطبيعة التي هي عبارة عن الإطلاق. م ح ـ ى.
(صفحه450)
كليهما عملاً، فهذا التعبّد بلا طائل، وإن قلنا بتساقطهما ففساده أظهر منسابقه، لأنّ حجّيّتهما بمقتضى دليل اعتبارهما ثمّ تساقطهما صدورا ودلالةً، لتعقل، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما، لأنّه مقتضى حجّيّتهما وعدم إمكان العملبكليهما.
وأمّا على الإطلاق الذاتي ـ الذي نحن نقول به ـ فيمكن أن يقال بأنّمقتضى القاعدة هو التخيير أيضاً، لا التساقط، لأنّ التصرّف في دليل الاعتبارلابدّ من أن يتقدّر بقدر الحاجة والضرورة(1)، فإذا دار الأمر بين رفع اليد عندليل الاعتبار بالنسبة إلى حال التعارض مطلقا حتّى تصير النتيجة عدمحجّيّة كلا المتعارضين أو رفع اليد عن كلّ منهما حال الإتيان بالآخر، كانالثاني أولى، ونتيجته هي التخيير، كما في باب التزاحم.
الفرق بين بابي التزاحم والتعارض
ولكن يرد عليه أنّ التكليف في باب التزاحم نفسي بالنسبة إلى كلالمتزاحمين، فإذا قال: «أنقذ الغريق» كان نفس إنقاذ كلّ غريق ذا مصلحةملزمة، والعقل يحكم عند التزاحم بالتخيير.
بخلاف المقام، فإنّ وجوب تصديق كلّ عادل ليس نفسيّا، بل طريقيّمجعولاً لأجل كشف خبر العادل عن الواقع، ولا يعقل في الخبرين المتعارضينأن يكون كلّ منهما طريقا إلى الواقع حتّى نقول بالتخيير بينهما قياسا علىباب التزاحم.
نعم، لو كان لنا طريقان وعلمنا بوصول كلّ منهما إلى المقصد يحكم العقلبالتخيير بينهما في الذهاب إلى المقصد، بخلاف المقام الذي نعلم بعدم وصول
- (1) فإنّ الضرورات تتقدّر بقدرها. م ح ـ ى.
ج6
أحدهما إلى المقصد بل بتبعيده عنه أحيانا، كما إذا كان مفاد أحد المتعارضينهو الوجوب ومفاد الآخر هو الحرمة، فحينئذٍ نحن نعلم بأنّ أحدهما مبعّد عنالواقع، كما إذا كان لنا طريقان: أحدهما واصل إلى المقصد، والآخر موقع فيالبئر، فلا معنى لحكم العقل بالتخيير حينئذٍ.
فلابدّ من القول بالتساقط.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ القاعدة العقليّة هي التساقط، سواء قلنبكون الدليل على حجّيّة خبر الواحد بناء العقلاء كما هو الحقّ، أو الأدلّةاللفظيّة، لأنّها على تقدير تماميّتها تدلّ على الحجّيّة بالإطلاق الذاتي، ومقتضاههو التساقط كما عرفت آنفا.
هذا كلّه على الطريقيّة.
وأمّا السببيّة فلا فائدة في البحث بناءً عليها، لكونها مجرّد فرض مخالفللواقع.
ثمّ لا إشكال في أنّ الشهرة الفتوائيّة على خلاف القاعدة العقليّة،فإنّ المشهور قالوا بالتخيير بين المتكافئين، بل ادّعي عليهالإجماع.
لكنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة كما ثبت في محلّه(1)، على أنّ مدركالمجمعين هو الأخبار الدالّة على التخيير، فليس لنا في المسألة إجماع بمهو إجماع.
البحث الثاني: في مقتضى الأخبار الواردة في المتكافئين
فلنشرع في مقتضى أخبار المسألة، فنقول:
- (1) راجع ص260 من الجزء الرابع.
(صفحه452)
الروايات الواردة في المتعارضين المتكافئين الدالّة على التخيير فقد ادّعىالشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله تواترها(1).
نقد كلام الشيخ في دعوى تواتر أحاديث التخيير
وفيه: أنّ أخبار التخيير لا تزيد على سبعة(2)، فأين التواتر؟!
وحيث إنّ بعضها ضعيف سندا وبعضها دلالةً يشكل طرح القاعدة والعملبها لولا انجبارها بفتوى المشهور.
ثمّ إنّ أحاديث المتكافئين على طائفتين: فإنّ بعضها يدلّ على التخييروبعضها على التوقّف، وأخبار التوقّف أيضاً لا تزيد على أربعة(3).
وكلّ منهما على قسمين: لأنّ ما يدلّ على التخيير بعضها مطلق وبعضهمقيّد بزمن حضور الإمام عليهالسلام ، وهكذا أخبار التوقّف، فجميع الأخبار الواردةفي المقام على طوائف أربع.
وحيث إنّها في نفسها تكون متعارضة فلابدّ من رفع التعارض عنها ابتداءًليتّضح حكم الخبرين المتكافئين بمقتضاها.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في رفع المعارضة عن أخبار الباب
قال المحقّق النائيني رحمهالله : لا معارضة بين ما دلّ على التخيير مطلقا وبين ما دلّعليه مقيّدا بزمن الحضور، وكذا لا معارضة بين مادلّ على التوقّف مطلقا وبينما دلّ عليه مقيّدا بزمن الحضور، لأنّ المقيّد لا يكون له مفهوم حتّى يعارض
- (1) راجع فرائد الاُصول 4: 39.
- (2) راجع وسائل الشيعة 27: 106 ـ 124، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ومستدرك الوسائل17: 302 ـ 307، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، حتّى يتّضح لك الأمر. منه مدّ ظلّه.