(صفحه216)
بقي الكلام في صحّة ما سلكه المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة:
نقد ما أفاده رحمهالله في الحاشية
أمّا كلامه في التعليقة فاُورد عليه بأنّ الشكّ في الحلّيّة بعد الغليان وإن كانمسبّبا عن الشكّ في الحرمة التعليقيّة قبله، إلاّ أنّ هذا لا يكفي في الحكومةوتقدّم الثاني على الأوّل.
توضيح ذلك: أنّ تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في باب الحكومة إنّما هولأنّ الأصل الجاري في السبب يرفع الشكّ تعبّدا عن المسبّب، أي يكون التعبّدببقاء السبب أثره الشرعي هو التعبّد بحكم المسبّب، وإلاّ فلا وجه لتقدّمأحدهما على الآخر.
توضيح ذلك: أنّا إذا غسلنا ثوبا متنجّسا بماء شكّ في كرّيّته وكان كرّسابقا يقع التعارض بدوا بين استصحاب كرّيّة الماء واستصحاب نجاسةالثوب، وذلك لأجل ضمّ كبرى شرعيّة ـ أعني «المتنجّس إذا غُسِل في الكرّيطهر» ـ إلى استصحاب الكرّيّة، فإنّ استصحاب نجاسة الثوب ينافي ويعارضبدوا استصحاب كرّيّة الماء بملاحظة ضمّ تلك الكبرى الكلّيّة الشرعيّة إليه؛لتضادّ الحكمين، أعني النجاسة المستفادة من استصحاب النجاسة والطهارةالمستفادة من الكبرى الشرعيّة، ولو لم تكن تلك الكبرى لم يكن بين الأصلينتعارض أصلاً، لتغاير موضوعهما ومحمولهما، فإنّ موضوع أحدهما هو الماءومحموله الكرّيّة، وموضوع الآخر هو الثوب ومحموله النجاسة.
وبهذا ظهر وجه تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في المثال، وهو أنّ تلكالكبرى الشرعيّة المنضّمة إلى استصحاب الكرّيّة ترفع الشكّ تعبّدا عنالمسبّب.
ج6
وبعبارة اُخرى: يكون التعبّد ببقاء السبب أثره الشرعي هو التعبّد بحكمالمسبّب، فإنّ التعبّد ببقاء كرّيّة الماء أثره الشرعي طهارة الثوب المغسول به،ولا عكس، إذ ليس لاستصحاب نجاسة الثوب أثر شرعي مبيّن لحكم الماءالذي شكّ في كرّيّته، وإن كان له أثر عقلي كذلك، حيث إنّ التعبّد بنجاسةالثوب أثره العقلي عدم كرّيّة الماء، فتقدّم الأصل السببي إنّما هو بملاك رفعهالشكّ عن المسبّب تعبّدا، دون العكس.
وسيأتي زيادة توضيح لذلك إنشاء اللّه تعالى.
وأمّا الأصل الجاري في ناحية السبب في ما نحن فيه ـ أعني استصحابالحرمة المعلّقة قبل الغليان ـ فلا يكون له أثر شرعي مبيّن لحكم المسبّب.
وأمّا عدم الحلّيّة المترتّب على الحرمة الفعليّة بعد الغليان المترتّبة علىالحرمة المعلّقة قبله وإن كان مترتّبا على الأصل السببي، إلاّ أنّه أثر عقليمترتّب على الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري(1)، فلا وجه لتقدّم الأصلالجاري في السبب على الجاري في المسبّب.
مسلك الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في المقام
وذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» ـ كالشيخ رحمهالله ـ إلى حكومةاستصحاب الحرمة التعليقيّة على استصحاب الإباحة، كسائر الحكومات، لأنّ
- (1) توضيحه: أنّ استصحاب الحرمة التعليقيّة قبل الغليان يقتضي الحرمة الفعليّة بعده، والحرمة الفعليّةكذلك تقتضي عدم الحلّيّة، لأنّ عدم الحلّيّة وإن كان من آثارها العقليّة، إلاّ أنّك عرفت أنّ المستصحب إذكان مجعولاً شرعيّا يترتّب عليه جميع آثاره، حتّى العقليّة والعاديّة منها.
لكنّه مع ذلك لا يرفع الشكّ في الحلّيّة وعدمها عن ناحية المسبّب، لما عرفت من أنّ الملاك في رفعالشكّ عن المسبّب هو التعبّد الشرعي بحكمه، لا ما يحكم به العقل بملاحظة الأصل السببي، فليس بينالأصلين تقدّم وتأخّر، بل كلاهما يجريان ويتعارضان ويتساقطان، ثمّ يرجع إلى القواعد الاُخر. هذتوضيح كلام هذا المستشكل. م ح ـ ى.
(صفحه218)
شرط حكومة أصل على آخر أمران: أحدهما: كون أحد الشكّين مسبّبا عنالآخر، والثاني: أن يكون جريان الأصل في السبب رافعا للشكّ عن المسبّبتعبّدا، كما أنّ استصحاب كرّيّة الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول بهبحسب الكبرى الشرعيّة من أنّ الكرّ مطهّر، فيرفع الشكّ في أنّ الثوب طاهرأم لا؟
ثمّ إنّه«مدّ ظلّه» ذكر مقدّمتين لإثبات المدّعى:
الاُولى: أنّ الحكم الشرعي إذا كان معلّقا على شيء صار فعليّا بعد تحقّقما علّق عليه، وهذا الحكم الفعلي المترتّب على التعليقي والترتّب عليه كلاهمشرعيّان، فإذا قال الشارع: «العنب يحرم إذا غلى» يترتّب عليه بعد الغليانحرمة فعليّة للعنب، وهذه الحرمة الفعليّة وترتّبها على الحرمة التعليقيّة كلاهمشرعيّان.
الثانية: أنّ الشكّ والترديد قائم بطرفين، فإذا شككنا في طهارة شيء مثلتارةً نعبّر عنه بالشكّ في طهارته ونجاسته، واُخرى بالشكّ في الطهارة وعدمها،وثالثةً بالشكّ في النجاسة وعدمها، ولكنّه لا تكون في النفس إلاّ حالة ترديديّةواحدة، والتعبير عنها مختلف، فإذا قام الدليل على طهارة ذلك الشيء ارتفعالترديد رأسا، لزوال أحد طرفيه ولو تعبّدا، فإذا كان مفاد أصل هو الطهارةبلسان الأصل السببي يكون رافعا للشكّ المتقوّم بطرفي الترديد، فيصير حاكمعلى الأصل المسبّبي.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الشكّ في بقاء الإباحة الفعليّة للعصيرالزبيبي المغليّ مسبّب عن بقاء الحرمة الشرعيّة التعليقيّة بالنسبة إلى الزبيبقبل غليانه، ولمّا كان التعليق شرعيّا تكون الحرمة الفعليّة بعد الغليان وترتّبهعلى الحرمة التعليقيّة قبله كلاهما بحكم الشرع، فترتّب الحرمة على العصير
ج6
المغليّ ليس بعقلي، بل شرعي، فحينئذٍ يقتضي استصحاب الحرمة التعليقيّةقبل الغليان الحرمة الفعليّة عند فعليّة الغليان، فيرفع الشكّ في الحرمةوالإباحة الفعليّتين، لأنّ الشكّ في الحرمة والإباحة متقوّم بطرفي الترديد، فإذكان لسان جريان الأصل في السبب هو التعبّد بحرمة المغليّ يرفع الترديد بينالحرمة والحلّيّة، وهذا معنى حكومة الأصل السببي على المسبّبي.
فالقول بالفرق بين الأصل التعليقي السببي والتنجيزي المسبّبي وبين الأصلالسببي والمسبّبي في موارد اُخر إن كان لدعوى تعليقيّة الأصل وأنّ صيرورةالتعليق فعليّا عقلي فقد عرفت بطلانها في المقدّمة الاُولى، وإن كان من جهة أنّالحلّيّة والحرمة متضادّتان، فإثبات أحد الضدّين يدفع الضدّ الآخر بحكمالعقل، وهذا اللازم وإن كان مترتّبا على المستصحب إلاّ أنّه لا يصحّحالحكومة، فقد عرفت بطلانه أيضاً آنفا، لما ذكرنا من أنّ جريان الأصل فيالتعليقي يدفع الشكّ المتقوّم بطرفي الترديد، لأجل التعبّد بأحد طرفي الترديدمتعيّنا، وهو الحرمة، لأنّا قلنا في المقدّمة الثانية: إذا زال أحد طرفي الشكّ ـ ولوتعبّدا ـ ارتفع الشكّ، ألا ترى أنّ أصالة بقاء كرّيّة الماء أيضاً لا تدفع نجاسةالثوب المغسول به؟ بل ترفع الترديد، بالتعبّد بطهارته، ومع ذلك لا يجرياستصحاب النجاسة، لحكومة استصحاب الكرّيّة عليه.
والحاصل: أنّ الحكومة بكلا ركنيها ـ أعني كون أحد الشكّين مسبّبا عنالآخر وكون جريان الأصل في السبب رافعا للشكّ عن المسبّب تعبّدا موجودة في المقام.
وإن شئت قلت: إنّ استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان جارٍ قبلحصوله، ويترتّب عليه الحرمة الشرعيّة الفعليّة بعد حصوله، وأمّا استصحابالحلّيّة فلا يجري إلاّ بعد حصول الغليان، إذ لا شكّ فيها قبله، فاستصحاب
(صفحه220)
الحرمة المعلّقة الذي هو جارٍ في الآن الأوّل الذي صار العنب زبيبا فيه يترتّبعليه الحرمة التنجيزيّة بعد الغليان تعبّدا، فالاستصحاب التعليقي عيّن قبلالغليان حكم الزبيب بعده، فهو رافع للشكّ، فلا مجال لاستصحاب الحلّيّةالمنجّزة، لأنّ موضوعه الشكّ في الحلّيّة، ولا شكّ.
فالإنصاف أنّه لا فرق بين الحكومة في المقام وبين المقامات الاُخر(1).
هذا حاصل ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه».
نقد نظريّة الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في المسألة
ويمكن المناقشة في موضع من كلامه، وهو قوله بأنّ ترتّب الحكم الفعليالشرعي على الموضوع بعد حصول المعلّق عليه شرعي، فإنّه لا يبعد أنيكون عقليّا، والحكم الفعلي وإن كان شرعيّا، كالتعليقي، ضرورة أنّ الحاكمبالحرمة الفعليّة للعنب المغليّ هو الشارع، كما أنّه هو الحاكم بحرمته التعليقيّةقبل الغليان، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب أن يكون الترتّب أيضاً شرعيّا، ألا ترى أنّإذا قلنا بوجوب مقدّمة الواجب يكون وجوبها ووجوب ذيها كلاهمشرعيّين، ولكنّ الملازمة بينهما عقليّة، والمقام أيضاً كذلك، فإنّ الشارع إذا قال:«العنب يحرم إذا غلى» يكشف العقل بعد ملاحظته أنّ العنب بعد الغليان يحرمفعلاً بحكم الشرع.
الحقّ في المسألة
ولكن هذه المناقشة لا تضرّ بمسألة الحكومة، لتحقّق ركنيها، إذ لا شكّفي أنّ الشكّ في حلّيّة الزبيب بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في بقاء
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 173.