(صفحه118)
الحكم، فكيف تكون من الأحكام الوضعيّة؟!
ولكن يمكن توجيهه بأنّ عدّ الماهيّات المخترعة الشرعيّة من الأحكامالوضعيّة إنّما هو باعتبار كونها مركّبة من الأجزاء والشرائط والموانع(1)،وحيث كانت الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة فيصحّ عدّجملة المركّب من الأحكام الوضعيّة، وليس مراد القائل بأنّ الماهيّات المخترعةمن الأحكام الوضعيّة كون الصلاة مثلاً بما هي هي حكماً وضعيّاً، فإنّ ذلكواضح الفساد لا يرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم.
نعم، عدّ الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعيّة لا يخلو عن تعسّف،خصوصاً الولاية والقضاوة الخاصّة التي كان يتفضّل بهما الإمام عليهالسلام لبعضالصحابة، كولاية مالك الأشتر، فإنّ الولاية والقضاوة الخاصّة حكمها حكمالنيابة والوكالة لا ينبغي عدّها من الأحكام الوضعيّة، وإلاّ فبناءً على هذالتعميم كان ينبغي عدّ الإمامة والنبوّة أيضاً من الأحكام الوضعيّة،وهو كما ترى.
فالتحقيق أنّ الأحكام الوضعيّة ليست بتلك المثابة من الاقتصار، بحيثتختصّ بالثلاثة أو الخمسة أو التسعة المتقدّمة، ولا هي بهذه المثابة من التعميم،بحيث تشمل الماهيّات المخترعة والولاية والقضاوة.
بل ينبغي أن يُقال: إنّ المجعولات الشرعيّة التي هي من القضايا الكلّيّةالحقيقيّة على أنحاء ثلاثة: منها: ما يكون من الحكم التكليفي، ومنها: ما يكونمن الحكم الوضعي، ومنها: ما يكون من الماهيّات المخترعة، فتأمّل جيّداً(2).
إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) «عدم الموانع» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 4: 385.
ج6
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في ذلك
وقال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في جوابه:
كلّ مقرّر وقانون عرفي أو شرعي ممّا له أهليّة التقرير والتقنين حكم تكليفأو وضعاً، ولا يخرج المقرّرات الشرعيّة أو العرفيّة من واحدٍ منهما ولا ثالثلهما، فمثل الرسالة والخلافة والإمامة والحكومة والإمارة والقضاوة منالأحكام الوضعيّة.
قال تعالى: «وَ كُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا»(1)، وقال تعالى: «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الاْءَرْضِخَلِيفَةً»(2)، وقال تعالى: «إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَلاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ»(3)، فقد نصب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أمير المؤمنين عليهالسلام إماموأميراً على الناس يوم الغدير، وجعل القضاة من ناحية السلطان كجعل الأميروالحاكم معروف ومعلوم.
وبالجملة: لا إشكال في كون النبوّة والإمامة والخلافة من المناصب الإلهيّةالتي جعلها وقرّرها، فهي من الأحكام الوضعيّة، أو من الوضعيّات، وإن لميصدق عليها الأحكام، فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمهالله من كون أمثالذلك من الأحكام الوضعيّة في غير محلّه، إلاّ أن يرجع إلى بحث لغوي، وهوعدم صدق الحكم عليها، وهو كما ترى(4)، كاستيحاشه من كون الماهيّاتالمخترعة ـ كالصلاة والصوم ـ منها، فإنّها قبل تعلّق الأمر بها وإن لم تكن منالأحكام الوضعيّة، لكنّها لم تكن قبله من الماهيّات المخترعة أيضاً، لعدم كونه
- (4) إذ لا إشكال في صدق الحكم على كلّ مقرّر ومجعول شرعي، وهذه المناصب تكون من المقرّراتوالمجعولات الشرعيّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه120)
حينئذٍ من المقرّرات الشرعيّة، وإنّما تصير مخترعات شرعيّة بعدما قرّرهالشارع في شريعته بجعلها متعلّقة للأوامر، وحينئذٍ تصير كالجزئيّة والشرطيّةوالمانعيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة، ولا فرق بين الجزئيّة والكلّيّة منكونهما أمرين منتزعين عن تعلّق الأمر بالطبيعة، فيكون نحو تقررّهما فيالشريعة بكونهما منتزعين عن الأوامر المتعلّقة بالطبائع المركّبة، فمن جعلالجزئيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة مع اعترافه بكونها انتزاعيّة فليجعلالمأمور بهيّة أيضاً كذلك، وكذا لا مانع من جعل الماهيّات الاختراعيّة منالأحكام الوضعيّة، أي من المقرّرات الشرعيّة والوضعيّات الإلهيّة.
نعم، إطلاق الحكم عليها كإطلاقه على كثير من الوضعيّات يحتاج إلىالتأويل.
نعم، نفس الصلاة والصوم كنفس الفاتحة والركوع والسجود مع قطع النظرعن تعلّق الأمر بهما وصيرورتهما من المقرّرات الشرعيّة لا تعدّان من الأحكامالوضعيّة ولا من الماهيّات المخترعة.
فالتحقيق أنّ جميع المقرّرات الشرعيّة تنقسم إلى الوضع والتكليف ولثالث لهما.
نعم، صدق الحكم على بعضها أوضح من صدقه على الآخر، بل في بعضهغير صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم وعدمه، بل في مطلقالوضعيّات، صدق عليها أو لا(1).
إنتهى كلامه «مدَّ ظلّه».
تتمّة
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 114.
ج6
أقول: لم يتعرّض الإمام«مدّ ظلّه» لما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من كون الولاية والقضاوة الخاصّة التي كان يتفضّل بهما الإمام عليهالسلام لبعضالصحابة من قبيل النيابة والوكالة لا من الأحكام الوضعيّة، ونحن نتعرّض له،فنقول:
أمّا الولاية الخاصّة المشار إليها فالظاهر عدم كونها حكماً شرعيّاً وضعيّاً،لعدم كونها مجعولة من قبل اللّه تعالى، بل جعلها الإمام، فهي من قبيل النيابةوالوكالة كما قاله المحقّق النائيني رحمهالله .
بخلاف القضاوة الخاصّة، لأنّ الظاهر أنّ تعيين أمير المؤمنين عليهالسلام شريحمثلاً للقضاوة يكون من قبيل تعيين المصداق لمن جعله اللّه تعالى قاضياً،فالقضاوة مجعولة من قبل اللّه تعالى لجامع شرائطها، فهي حكم شرعيوضعي، لا نيابة و وكالة، وإلاّ جاز للإمام نصب فاقد شرائط القضاء في الشرعللقضاوة، إذ لا يلزم رعاية تحقّق هذه الشرائط في النائب والوكيل، مع أنّه ليجوز نصبه.
فكلامه رحمهالله بالنسبة إلى الولاية المجعولة من قبل الإمام عليهالسلام لبعض الصحابةحقّ، لا بالنسبة إلى القضاوة المجعولة كذلك.
كيفيّة جعل الأحكام الوضعيّة
هل الأحكام الوضعيّة مجعولة من قبل الشارع بنحو الاستقلال ـ كما قيل أو بتبع الأحكام التكليفيّة ـ كما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله (1) ـ أو فيهتفصيل؟
كلام صاحب الكفاية في ذلك
- (1) فرائد الاُصول 3: 125 وما بعدها.
(صفحه122)
قال المحققّ الخراساني رحمهالله : والتحقيق أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء ثلاثة:
أحدها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً،وإن كان مجعولاً تكويناً بعين جعل موضوعه كذلك، وذلك مثل السببيّةوالشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سبب التكليف أو شرطه أو مانعه أورافعه، أمّا عدم جعلها التشريعي التبعي فلأنّ سببيّة مثل دلوك الشمس مثللوجوب الصلاة لو كانت منتزعة من وجوبها للزم تقدّم المنتزع على منشانتزاعه، وهو مستحيل.
توضيح ذلك: أنّ سبب التكليف مقدَّم عليه ذاتاً، وكذا شرطه وعدم مانعهوعدم رافعه، فالتكليف متأخّر ذاتاً عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة،ولو كان منشأً لانتزاع هذه الصفات لكان مقدّماً عليها، للزوم تقدّم منشالانتزاع على ما انتزع منه.
إن قلت: تأخّر التكليف عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة واضح دونالرافعيّة، فإنّ الرافع يرفع التكليف الموجود، كالاضطرار الرافع لحرمة أكلالميتة، فالتكليف هاهنا مقدّم على الرافعيّة.
قلت: الرافعيّة وإن كانت متأخّرة عن حدوث التكليف، إلاّ أنّها متقدّمةعلى بقائه، لأنّ بقاء التكليف مشروط بعدم الرافع، كما أنّ حدوثه مشروطبعدم المانع، وبالجملة: إنّ الرافعيّة مربوطة بالبقاء وبقاء التكليف يكونمتأخّراً عنها.
وأمّا عدم جعلها تشريعاً مستقلاًّ فلأنّ ذات السبب إذا كان أمراً تكوينيّـ مثل دلوك الشمس ـ فلا محالة كانت سببيّته أيضاً تكوينيّة، فلا يعقلتشريعها، وكذلك الشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة، فاتّصاف الاُمور التكوينيّةبهذه الأوصاف ليس إلاّ لأجل ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك