(صفحه12)
مسألة اُصوليّة، لأنّ العامّي لا يتمكّن من إجرائه في مورده، لأنّ موضوعهالشكّ في الحكم الواقعي، وهو لا يتمكّن من تشخيص موارد الشكّ، لأنّا لنريد منه الشكّ مطلقاً، بل الشكّ بعد الفحص الذي هو موضوع الاستصحاب،وحيث إنّ العامّي لا يقدر على الفحص، فلا يتمكّن من تشخيص موارد الشكّالمعتبر في موضوع الاستصحاب، فلا يتمكّن من إجرائه في موارده(1). هذحاصل ما أفاده في هذه المسألة.
وفيه: أنّ إجراء كثير من المسائل الفقهيّة والقواعد الفرعيّة في مواردها أيضيختصّ بالمجتهد، كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، فإنّها قاعدةفرعيّة دالّة على أنّ كلّ معاملة يضمن بصحيحها يضمن بفاسدها، ومع ذلك ليتمكّن من إجرائها إلاّ المجتهد، لعدم قدرة العامّي على تشخيص مصاديق «ميضمن بصحيحه» كي يتمكّن من الحكم بضمان فاسده، فإنّه لا يطّلع على أنّالبيع مثلاً هل يضمن بصحيحه أم لا؟ بل تشخيص بعض مصاديقه صعب علىالمجتهد فضلاً عن المقلّد، كالبيع بلا ثمن والإجارة بلا اُجرة، فإنّ الاطّلاع علىأنّهما هل هما من مصاديق القاعدة أم لا مشكل جدّاً، وهكذا تشخيص أنّههل هي مختصّة بالاُجرة ومنفعة العين المستأجرة أو تعمّ نفس العين المستأجرةأيضاً مشكل.
وقاعدة «لا ضرر» أيضاً قاعدة فقهيّة، ومع ذلك إجرائها في مواردهيحتاج إلى الاجتهاد، ولا يكون للعامّي حظّ فيه، فجعل هذا من مختصّاتالمسائل الاُصوليّة لا يتمّ.
هل الاستصحاب من مصاديق الأدلّة الأربعة أم لا؟
ج6
الرابع: يمكن المناقشة فيما أورده على السيّد بحر العلوم.
كلام العلاّمة بحر العلوم رحمهالله في المقام
بيان ذلك أنّ السيّد العلاّمة بحر العلوم قدسسره جعل الاستصحاب دليلاً علىالحكم في مورده، وجعل قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» دليلاً على الدليل،نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة(1).
مناقشة الشيخ الأنصاري رحمهالله في نظريّة بحر العلوم
واستشكل عليه الشيخ الأعظم رحمهالله بأنّ معنى الاستصحاب الجزئي في الموردالخاصّ ـ كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ـ ليس إلاّ الحكم بثبوت النجاسة فيذلك الماء النجس سابقاً، وهل هذا إلاّ نفس الحكم الشرعي؟ وهل الدليلعليه إلاّ قولهم عليهمالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ»؟ وبالجملة: فلا فرق بينالاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات(2)، إنتهى.
نقد كلام الشيخ رحمهالله في المسألة
أقول: المناقشة في كلام الشيخ رحمهالله تتوقّف على مقدّمة:
وهي أنّا لو قلنا بأنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعةفالاستصحاب داخل في أيّ منها؟ هل هو من مصاديق الكتاب أو السنّة أوالعقل أو الإجماع؟
- (1) فإنّه قدسسره قال ـ على ما نقله عنه الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره في فرائد الاُصول 3: 20 ـ : وليس عموم قولهم:«لا تنقض اليقين بالشكّ» بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس إلى آحادالأخبار المعتبرة.
(صفحه14)
اعلم أنّ الاُصولي بما هو اُصولي لا يبحث عن السنّة مطلقاً، بل يبحث عنهبما هي دليل على الحكم الشرعي، وهكذا البحث عن الأدلّة الثلاثة الاُخر،فظواهر الكتاب مثلاً وإن كانت حجّة في غير آيات الأحكام أيضاً، إلاّ أنّحجّيّة ظواهره بالنسبة إلى هذه الطائفة من الآيات لا تكون محطّ نظرالاُصولي بما هو اُصولي، لعدم كونها دليلاً على الحكم الشرعي، والعقل الذييبحث عنه في علم الاُصول أيضاً هو العقل الذي يكون دليلاً على الحكمالشرعي، وأمّا العقل الدالّ على أنّ مضروب الاثنين في الاثنين يساويالأربعة لا يكون محطّ نظر الاُصولي بما هو اُصولي، وهكذا السنّة والإجماع.
وعلى هذا فلا يكون الاستصحاب من الأدلّة الأربعة، وذلك لأنّ الدليلعلى اعتباره إن كان هو الأخبار ـ كما هي العمدة في الباب ـ فقوله عليهالسلام : «لتنقض اليقين بالشكّ» لا يكون دليلاً على الحكم الشرعي، بل هو الدليل علىالدليل، لأنّ وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة مثلاً لا يكون مدلولاً للخبربلا واسطة، بل الدالّ عليه هو الاستصحاب، والخبر هو الدليل على اعتبارالاستصحاب، كما أنّ الخبر الواحد إذا دلَّ على حكم وقلنا بدلالة آية النبأ علىحجّيّته لا تكون الآية دليلاً على الحكم، بل الدليل هو الخبر، والآية هيالدليل على اعتباره، وما نحن فيه أيضاً كذلك.
وحيث إنّ السنّة بما هي دليل على الحكم الشرعي الفرعي اُخذت فيموضوع علم الاُصول ـ كما عرفت ـ فليس الاستصحاب من السنّة حتّىيدخل في الأدلّة الأربعة التي جعلها المشهور موضوع علم الاُصول.
وهكذا ليس من الأدلّة الأربعة لو كان الدليل على اعتباره حكم العقل،لأنّ العقل أيضاً بما هو دليل على الحكم الشرعي اُخذ موضوعاً لهذا العلم لمطلقاً.
ج6
نعم، يمكن القول بعدم انحصار أدلّة الأحكام بالأربعة، فالاستصحاب دليلبرأسه وداخل في موضوع علم الاُصول مستقلاًّ، كما ذهب إليه بعض المحقّقينمنهم سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّ ظلّه العالي»(1).
إذا عرفت هذا ظهر لك أنّ الحقّ ما ذهب إليه السيّد العلاّمة بحر العلوم،وظهر أيضاً إشكال قول الشيخ الأعظم رحمهالله ، فإنّ الدليل على ثبوت النجاسة فيزمن الشكّ ليس إلاّ الاستصحاب الذي هو أصل ووظيفة مقرّرة للشاكّ،وقوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو الدليل على الدليل، كما قال السيّد بحرالعلوم رحمهالله .
- (1) راجع الرسائل، مبحث الاستصحاب: 74.
(صفحه16)
في جريان الاستصحاب في الحكم المستكشف بالدليل العقلي
البحث حول الأقوال في المسألة
إذا عرفت تعريف الاستصحاب وما يتعلّق به فاعلم أنّ الاُصوليّين اختلفوفي جريان الاستصحاب وعدمه على أقوال كثيرة:
في جريان الاستصحاب في الحكم المستكشف بالدليل العقلي
منها: التفصيل بين الحكم الشرعي الذي ثبت بدليل العقل بمعونةالملازمة(1)، وبين الحكم الشرعي الذي ثبت بغيره من الأدلّة الثلاثة، فيجريفي الثاني دون الأوّل.
وهذا التفصيل ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله في فرائده، حيثقال: ولم أجد من فصّل بينهما، إلاّ أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكمبالدليل العقلي ـ وهو الحكم العقلي المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلاً، نظرإلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي،والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لابدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوعالحكم، لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلّها راجعة إلىقيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع، فالشكّ في حكم العقل حتّى لأجل
- (1) أي العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ثبت حكم الشارع بوجوبه أو حرمته، لأجل الملازمة، وهو «كلّمحكم به العقل حكم به الشرع». منه مدّ ظلّه.