(صفحه138)
في جريان الاستصحاب فيما يثبت بالأمارات
جريان الاستصحاب فيما يثبت بالأمارات
التنبيه الثاني: إذا علمنا وجداناً بحدوث شيء ثمّ شككنا في بقائهفلا إشكال في جريان الاستصحاب، وأمّا إذا شكّ في بقاء شيء على تقديرحدوثه ولم يحرز حدوثه بالوجدان ـ كما إذا قامت الأمارة على حدوث شيءثمّ شكّ في بقائه على تقدير حدوثه ـ ففي جريان الاستصحاب إشكال،لعدم اليقين بالحدوث، وهو واضح، بل لعدم الشكّ في البقاء أيضاً؛لأنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو الشكّ في بقاء المتيقّن،لا مطلق الشكّ، وليس في المقام الشكّ في بقاء المتيقّن، بل الشكّ في البقاء علىتقدير الحدوث.
وهذا الإشكال بناءً على ما هو التحقيق من كون حجّيّة الأمارات من بابالطريقيّة أوضح، فإنّ حجّيّتها على هذا بمعنى المنجّزيّة على تقدير الإصابةوالمعذّريّة على تقدير الخطأ من دون أن يتغيّر الواقع ويتبدّل إلى مؤدّاها، بل ليجعل حكم ظاهري على وفقها على تقدير الخطأ، فضلاً عن الواقعي.
لكن لو قلنا باختصاص جريان الاستصحاب فيما إذا علمنا وجدانبحدوث شيء ثمّ شككنا في بقائه والتزمنا بعدم جريانه في موارد الأماراتلانسدّ باب الاستصحاب إلاّ في موارد قليلة، فكيف نصنع؟
كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في حلّ الإشكال
ج6
وأجاب عنه صاحب الكفاية رحمهالله بأنّ اعتبار اليقين في أدلّة الاستصحاب إنّمهو لأجل التعبّد بالبقاء لا بالحدوث، فمفاد أدلّة الاستصحاب هو جعلالملازمة بين الحدوث والبقاء، فيكفي في جريانه الشكّ في البقاء على تقديرالحدوث ولا يلزم الشكّ الفعلي في البقاء.
ثمّ استشكل على نفسه بأنّ اليقين جعل موضوع الاستصحاب في لسانالأدلّة، فكيف يصحّ جريانه مع عدم اليقين؟
فأجاب عنه بأنّ اليقين المأخوذ في أدلّة الاستصحاب ليس موضوعاً له، بلطريق إلى الثبوت، فيكون التعبّد بالبقاء مبنيّاً على أصل الثبوت لا على اليقينبه، وذكر اليقين في الأدلّة إنّما هو لمجرّد كونه طريقاً إليه، ففي موارد قيام الأمارةعلى شيء يحرز ثبوته بها وبقائه بأدلّة الاستصحاب الدالّة على الملازمة بينالثبوت والبقاء(1).
نقد ما أفاده صاحب الكفاية في المقام
ويرد عليه إشكالان:
أ ـ ما أورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»، وهو وقوع التهافتوالتناقض بين هذا الكلام وبين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبار اليقينوالشكّ الفعليّين في جريان الاستصحاب، لأنّ لازم القول باعتبار فعليّة اليقينوالشكّ فيه هو كونهما موضوعاً له، وهو لا يلائم القول بعدم كون اليقينموضوعاً للاستصحاب كما قال به في هذا التنبيه(2).
ب ـ أنّه لا منافاة بين كون اليقين في أخبار الاستصحاب طريقيّ
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 122.
(صفحه140)
وموضوعيّاً، فإنّه طريقي باعتبار متعلّقه، وموضوعي باعتبار الاستصحاب،فحرمة نقض اليقين بالشكّ تدور مدار اليقين، لأنّه موضوعها.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن الإشكال
وأجاب المحقّق النائيني رحمهالله وبعض تلامذته عن الإشكال بأنّ أدلّة حجّيّةالطرق والأمارات حاكمة على أخبار الاستصحاب بتوسعتها لها، فإنّ دليلحجّيّة الخبر الواحد مثلاً يدلّ على أنّ من قام عنده الخبر متيقّن بنظر الشارعويأمره الدليل بإلغاء احتمال الخلاف.
والحاصل: أنّه لو لم يكن أدلّة حجّيّة الأمارات لم يجر الاستصحاب فيموردها، لانحصار اليقين باليقين الوجداني، إلاّ أنّ أدلّة حجّيّتها تدلّ على كوناليقين على قسمين: وجداني وتعبّدي، وكلّ منهما كافٍ لجريانالاستصحاب(1).
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
ويرد عليه أنّ دليل حجّيّة الأمارات منحصر في بناء العقلاء، فإنّهم عندفقد العلم يعملون بعدّة أمارات قد أمضى الشارع بعضها ـ كخبر الواحد وردع عن بعض آخر ـ كالقياس والاستحسان ـ والعقلاء لا يرون أنفسهمعند العمل بخبر الواحد مثلاً متيقّنين، بل يعملون عند فقدان القطع بخبرالواحد وسائر الأمارات من دون تنزيلها منزلة اليقين ومن دون إلغاء احتمالالخلاف أصلاً، بل تدلّ سيرتهم على الحجّيّة فقط، وهي بمعنى المنجّزيّةوالمعذّريّة.
- (1) أجود التقريرات 4: 82 ، وفوائد الاُصول 4: 403.
ج6
على أنّ سائر الأدلّة التي ادّعي دلالتها على حجّيّة الأمارات أيضاً لا تدلّعلى تنزيلها منزلة اليقين، ألا ترى أنّ مفهوم آية النبأ الذي ادّعي دلالته علىحجّيّة خبر الواحد عبارة عن «إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن»؟ وعلىفرض تسليمه أين دلالته على لزوم إلغاء احتمال الخلاف وتنزيل خبر العادلمنزلة اليقين؟
الحقّ في حلّ الإشكال
ويمكن الجواب عن الإشكال بأنّ اليقين ـ كما قلنا سابقاً ـ اُخذ موضوعللاستصحاب بلحاظ تعلّقه بالمتيقّن، لا بلحاظ كونه من الصفات القائمة بنفسالمتيقِّن، فإنّ اليقين بذلك اللحاظ له إبرام مصحّح لإسناد النقض إليه، لباللحاظ الثاني، وقد مرَّ توضيح ذلك سابقاً(1).
ولابدّ من ضمّ نكتة اُخرى إليه حتّى يتبيّن جواب الإشكال، وهي أنّ ملاكإبرام اليقين واستحكامه بالنسبة إلى المتيقّن لا يكون كشفه عن الواقع دائماً، إذكثيراً ما يكون جهلاً مركّباً، بل الملاك هو حجّيّته وعدم حجّيّة الشكّ، فكأنّهقيل: «لا تنقض اليقين بالشكّ لأنّ اليقين حجّة والشكّ ليس بحجّة» فالحكمـ عني حرمة النقض ـ يدور مدار العلّة، والمعنى «لا تنقض الحجّة باللاحجّة».
فلا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد الأمارات المعتبرة، لكونهحجّة، إلاّ أنّ حجّيّتها شرعيّة وحجّيّة اليقين الوجداني عقليّة.
هذا ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ الإمام«مدّ ظلّه» عن الإشكال مع توضيحمنّا(2).
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 124.
(صفحه142)
ثمّ ذكر له مؤيّدات نذكر اثنين منها:
1 ـ قوله«مدّ ظلّه»: ويؤيّد ذلك، بل يدلّ عليه قوله في صحيحة زرارة الثانية:«لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقضاليقين بالشكّ أبداً» الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس، ولابدّ أنتحمل الطهارة على الواقعيّة منها، لعدم جريان الاستصحاب في الطهارةالظاهريّة، ومعلوم أنّ العلم الوجداني بالطهارة الواقعيّة ممّا لا يمكن عادةً(1)، بلالعلم إنّما يحصل بالأمارات، كأصالة الصحّة وإخبار ذي اليد وأمثالهما، فيرجعمفاده إلى أنّه لا يرفع اليد عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشكّ.
2 ـ قوله: بل يمكن أن يؤيّده بصحيحته الاُولى أيضاً، فإنّ اليقين الوجدانيبالوضوء الصحيح أيضاً ممّا لا يمكن عادةً، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحّةبعده ويحكم بصحّته بقاعدة الفراغ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجبالشكّ فيه، فاليقين بالوضوء أيضاً لا يكون يقيناً وجدانيّاً غالباً(2).
إنتهى كلامه«مدّ ظلّه العالي».
فالاستصحاب جارٍ في مورد الأمارات، كما يجري في مورد اليقينالوجداني.
- (1) والممكن هو العلم الوجداني بالنجاسة، إلاّ أنّه غير مورد الرواية، فلو كان اليقين فيها خصوص العلمالوجداني للزم خروج المورد، وهو العلم بطهارة الثوب. منه مدّ ظلّه.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 124.