ج6
التعليقيّة ولم يقل بجريانها في القضايا التنجيزيّة؟
وبالجملة: لا يمكن الجمع بين إنكار الواجب المشروط والحرامالمشروط والقول بكون السببيّة وأمثالها منتزعة عن التكليف وإجراءاستصحابها عند الشكّ في بقائها كما جمع الشيخ الأعظم رحمهالله بين هذه الاُمورالثلاثة.
ثمّ استشكل المحقّق النائيني رحمهالله عليه بوجه آخر، وهو أنّه لا يمكن تحقّقالشكّ في بقاء السببيّة عند تمام الموضوع أصلاً، لأنّها مقطوع البقاء حينئذٍ، فلمجال لاستصحابها، وإن أراد الشكّ لأجل احتمال النسخ فهو غير الاستصحابالتعليقي(1).
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ غليان العنب مثلوإن كان سببا في حرمته ولا شكّ في بقاء الحكم عند تمام الموضوع،ضرورة عدم الشكّ في حرمة العصير العنبي المغليّ، إلاّ أنّ الشكّ في العصيرالزبيبي، وليس منشأه الشكّ في نسخ الحكم الأوّل، بل في أنّ العنبيّةهل هي واسطة في الثبوت أو العروض(2)؟ وبعبارة اُخرى: إنّ سببيّةالغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدار العنبيّة أم لا؟ وفي مثلهلا يكون الشكّ في النسخ، ولعمري إنّ هذا بمكان من الوضوح، تدبّر(3)،إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
- (1) فوائد الاُصول 4: 472.
- (2) الواسطة في الثبوت: هي علّة ثبوت العرض حقيقةً لمعروضه، سواء كان العرض قائما بها أيضاً، كالناروالشمس العلّتين لثبوت الحرارة للماء، أم لا، كالحركة التي هي علّة لعروض الحرارة على الجسم.
والواسطة في العروض: هي التي يقوم بها العرض حقيقةً، وينسب إلى ذيها عناية ومسامحة من قبيلوصف الشيء بحال متعلّقه، كالسفينة الواسطة في نسبة الحركة إلى الجالس فيها، فإنّ الحركة صفةللسفينة حقيقةً، ويتّصف بها من جلس فيها بالعناية والمجاز. م ح ـ ى.
- (3) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 169.
(صفحه212)
و حاصله: أنّ منشأ الشكّ هو أنّ عنوان «العنب» ـ فيما إذا قال الشارع:«العنب إذا غلى يحرم» ـ هل اُخذ بنحو الموضوعيّة، أي كان واسطة فيالعروض وتمام الحيثيّة الدخيلة في الحكم بحيث يكون الحكم حدوثا وبقاءًتابعا له، فينتفي الحكم عند تبدّل عنوان «العنب» إلى عنوان «الزبيب»، أوبنحو العلّيّة والواسطة في الثبوت التي تؤثّر في حدوث الحكم لا في بقائه، فيبقىالحكم حتّى فيما إذا تبدّل العنبيّة إلى الزبيبيّة.
البحث حول معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي
قد اُورد على جريان الاستصحاب التعليقي بأنّه معارض دائما باستصحابتنجيزي، فإذا عرض الغليان على العصير الزبيبي كان استصحاب الحرمةالمعلّقة على الغليان أثره الحرمة الفعليّة بعد الغليان، وهو معارض باستصحابالحلّيّة الثابتة للعصير قبل الغليان، لأنّه إذا غلى يشكّ في حلّيّته وحرمته،فيتعارض الأصلان.
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في الجواب عن الإشكال
فأجاب عنه الشيخ الأعظم قدسسره بحكومة الاستصحاب التعليقي علىالاستصحاب التنجيزي(1)، ولم يذكر وجهها.
ما أفاده صاحب الكفاية رحمهالله في المسألة
فقال المحقّق الخراساني رحمهالله في تعليقته على الرسائل في بيان وجه الحكومة ممحصّله: أنّ الشكّ في الإباحة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في حرمته المعلّقة
- (1) فرائد الاُصول 3: 223.
ج6
قبله، فاستصحاب حرمته كذلك المستلزم لنفي إباحته بعد الغليان يكونحاكما على استصحاب الحلّيّة، والترتّب وإن كان عقليّا، إلاّ أنّ الأثر المترتّبعلى الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري يترتّب على المستصحب(1)، فيكوناستصحاب الحرمة حاكما عليه بهذه الملاحظة.
وبالجملة: إنّ استصحاب الحرمة التعليقيّة يترتّب عليه الحرمة الفعليّة بعدالغليان وينفي الإباحة بعده، لأنّ نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمةالفعليّة، واقعيّة كانت أو ظاهريّة، فيرتفع الشكّ المسبّبي(2).
هذا حاصل ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله في التعليقة.
وله قدسسره كلام آخر في الكفاية، فإنّه قال: إن قلت: نعم(3)، ولكنّه لا مجاللاستصحاب المعلّق، لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق، فيعارضاستصحاب الحرمة المعلّقة للعصير باستصحاب حلّيّته المطلقة.
قلت: لا يكاد يضرّ استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شكّفي بقاء حكم المعلّق بعده، ضرورة أنّه كان مغيّى بعدم ما علّق عليه المعلّق،وما كان كذلك لا يكاد يضرّ ثبوته بعده بالقطع فضلاً عن الاستصحاب، لعدمالمضادّة بينهما، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا معا بالقطع قبلبلا منافاة أصلاً، وقضيّة ذلك انتفاء حكم المطلق بمجرّد ثبوت ما علّق عليهالمعلّق، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلّيّة، فإذا شكّفي حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه شكّ في حلّيّته المغيّاة لا محالة أيضاً،فيكون الشكّ في حلّيّته وحرمته فعلاً بعد عروضها متّحدا خارجا مع الشكّ
- (1) يعني بهذا ما تقدّم من أنّ المستصحب إذا كان مجعولاً شرعيّا ـ سواء كان متيقّنا أو مدلولاً للأمارة أوالأصل ـ يترتّب عليه جميع آثاره حتّى العقليّة والعاديّة منها.
- (2) حاشية كتاب فرائد الاُصول: 208.
- (3) أي سلّمنا جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه. م ح ـ ى.
(صفحه214)
في بقائه على ما كان عليه من الحلّيّة والحرمة بنحو كانتا عليه، فقضيّةاستصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّيّته المغيّاةحرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حلّيّته، فإنّه قضيّة نحو ثبوتهما، كان بدليلهما أوبدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولتغفل كيلا(1) تقول في مقام التفصّي عن إشكال المعارضة أنّ الشكّ في الحلّيّةفعلاً بعد الغليان يكون مسبّبا عن الشكّ في الحرمة المعلّقة(2)، إنتهى موضعالحاجة من كلامه.
بيان ما أراده المحقّق الخراساني رحمهالله في الحاشية والكفاية
ثمّ قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» ـ بعد نقل هذين الكلامينمنه رحمهالله ـ برجوع ما في الكفاية إلى ما في التعليقة، فإنّه«مدّ ظلّه» قال: والظاهر أنّهيرجع إلى ما في التعليقة مع تعبير مخلّ وتغيير مضرّ(3).
لكنّ التأمّل في عبارته في الكفاية التي نقلناها بعينها يعطي خلاف ذلك،فإنّه صرّح في التعليقة بأنّ الشكّ في الإباحة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ فيحرمته المعلّقة قبله، وصرّح في الكفاية بعدم السببيّة والمسببيّة بينهما.
بل مراده في الكفاية أنّ للعنب بعد صدور قول الشارع: «العنب إذا غلىيحرم» حكمين: حرمة معلّقة على الغليان، وحلّيّة مغيّاة به، فإذا صار زبيبوشككنا في بقاء حرمته المعلّقة شككنا في بقاء حلّيّته المغيّاة أيضاً لا محالة، ولإشكال في جريان كلا الاستصحابين، لعدم المنافاة بين الحكمين إذا كانمقطوعين فضلاً عن كونهما ثابتين بالاستصحاب، وقضيّة جريان
- (1) هذه العبارة إلى آخر كلامه في المقام ليست في متن الكفاية، بل في حاشية منه قدسسره . م ح ـ ى.
- (3) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 170.
ج6
الاستصحابين حرمته الفعليّة بعد الغليان وانتفاء حلّيّته، لتحقّق غاية الحلّيّة،وهي الغليان.
وأين هذا المعنى ممّا ذهب إليه في التعليقة؟!
وحمل بعض الأعلام أيضاً ما في الكفاية على غير مراده رحمهالله ، فإنّه قال: بيانما ذكره في الكفاية بتوضيح منّا: أنّ الحلّيّة الثابتة للزبيب قبل الغليان غيرقابلة للبقاء ولا يجري فيها الاستصحاب، لوجود أصل حاكم عليه، وذلك لأنّالحلّيّة في العنب كانت مغيّاة بالغليان، إذ الحرمة فيه كانت معلّقة على الغليان،ويستحيل اجتماع الحلّيّة المطلقة مع الحرمة على تقدير الغليان كما هو واضح،وأمّا الحلّيّة في الزبيب فهي وإن كانت متيقّنة، إلاّ أنّها مردّدة بين أنّها هل هيالحلّيّة التي كانت ثابتةً للعنب بعينها حتّى تكون مغيّاة بالغليان، أو أنّها حادثةللزبيب بعنوانه فتكون باقية ولو بالاستصحاب؟ والأصل عدم حدوث حلّيّةجديدة وبقاء الحلّيّة السابقة المغيّاة بالغليان، وهي ترتفع به، فلا تكون قابلةللاستصحاب، فالمعارضة المتوهمّة غير تامّة.
ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث استصحاب الكلّي، من أنّه إذا كان المكلّفمحدثا بالحدث الأصغر ورأى بللاً مردّدا بين البول والمنيّ، فتوضّأ، لم يمكنجريان استصحاب كلّي الحدث، لوجود أصل حاكم عليه، وهو أصالة عدمحدوث الجنابة وأصالة عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر.
والمقام من هذا القبيل بعينه.
وهذا الجواب متين جدّا(1)، إنتهى كلامه.
أقول: هذا البيان مع قطع النظر عن صحّته وسقمه لا يطابق كلامه رحمهالله فيالكفاية، إذ لم يكن فيه من أصالة عدم حدوث حلّيّة جديدة عين ولا أثر.
- (1) مصباح الاُصول 3: 142.