(صفحه244)
الثاني: أنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة وإن لم تشمل الأخبار مع الواسطة حقيقةً،إلاّ أنّ العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّة، فخبر محمّد بن مسلم حجّة لنا، لأنّهخبر بلا واسطة فرضا، فيشمله قوله: «صدّق العادل» وبه يثبت خبر زرارةتعبّدا، ويثبت حجّيّته بإلغاء الخصوصيّة.
الثالث: أنّا نعلم بأنّ المناط في وجوب تصديق العادل هو كونه عادلموثوقا به، وحيث إنّ هذا المناط موجود في الأخبار مع الواسطة أيضاً فلابدّمن حجّيّتها وإن كان الدليل قاصرا عن شمولها.
ولا يمكن الجواب عن الإشكال بهذه الوجوه في ما نحن فيه.
أمّا الأوّل: فلأنّ جريان قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» في مثالاستصحاب مطهّريّة الماء لا يستلزم أن يكون طهارة اليد متيقّنة سابقمشكوكة فعلاً، فلا يتولّد من استصحاب مطهّريّة الماء مصداق آخرللاستصحاب ولو تعبّداً.
وأمّا الثاني والثالث: فلأنّ الأساس في إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط هوالاشتراك، والاشتراك موجود في الأخبار مع الواسطة، فإنّ خبر محمّد بنمسلم وخبر زرارة كلّ منهما قول عادل موثوق به، بخلاف المقام، لعدم وجهاشتراك بين مطهّريّة الماء وطهارة اليد، فإنّ الأوّل ذو حالة سابقة متيقّنةوجوديّة، بخلاف الثاني، لأنّ اليد لم تكن طاهرةً في السابق، بل كانت نجسةً.
وجه ترتّب الآثار الشرعيّة بلا واسطة ومع الواسطة الشرعيّة علىالمستصحب:
إن قلت: بناءً على ما ذكرت لم يبق فرق بين الآثار المترتّبة على الوسائطالشرعيّة وغيرها، بل الإشكال على الأوّل أكثر، لاشتراكهما في إشكال،واختصاص الأوّل بإشكال آخر كما ذكرت.
ج6
قلت: نعم، لا فرق بينهما من حيث الاستفادة من دليل الأصل، لكن هاهنأمر آخر موجب للزوم الأخذ بآثار اللوازم الشرعيّة وإن كانت مع ألفواسطة شرعيّة دون غيرها.
وتوضيحه يحتاج إلى مقدّمة، وهي أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله قال في الكفايةبأنّ قضيّة قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو جعل حكم مماثل للمستصحبفي استصحاب الأحكام وجعل حكم مماثل لحكم المستصحب في استصحابالموضوعات(1).
نقد ما أفاده صاحب الكفاية في الموضوع المستصحب
وفيه: أنّ دليل الاستصحاب في استصحاب الموضوعات لا يقتضي جعلحكم مماثل، بل قضيّته التعبّد ببقاء الموضوع فقط، والحكم يستفاد من دليلشرعي آخر، فإذا استصحبنا خمريّة مايع لا يقتضي دليل الاستصحاب إلالتعبّد ببقاء خمريّته، وأمّا حرمته فهي تستفاد من قوله: «الخمر حرام» لكونهمصداقا تعبّديّا للخمر.
والشاهد على ذلك أنّ الاستصحاب قد يجري في موضوع مع كونه فاقدللحكم في ذلك الآن، مثل استصحاب عدالة زيد قبل دخول وقت الصلاة، فإنّأثره جواز الاقتداء به بعد دخول الوقت، فأين الحكم المماثل في زمنالاستصحاب، حتّى يقال: قضيّة أخبار الباب جعل حكم مماثل لحكمالمستصحب في استصحاب الموضوعات؟
وبالجملة: لا فرق بين دليل حجّيّة الاستصحاب ودليل حجّيّة البيّنة فيذلك، فكما أنّ البيّنة إذا قامت بخمريّة مايع ثبتت الخمريّة بها فقط ولا يقتضي
(صفحه246)
دليل حجّيّتها حكم ذلك المايع، بل يستفاد حكمه من قوله: «الخمر حرام»فكذلك إذا استصحبنا خمريّته، فإنّ الوجدان لا يرى فرقا بين البيّنة وبينالاستصحاب إلاّ في كون الأوّل أمارةً والثاني أصلاً.
على أنّ القاعدة أيضاً تقتضي ذلك، لأنّ أخبار الاستصحاب ـ كما قلنكرارا ـ لا تدلّ بالمطابقة إلاّ على حرمة نقض اليقين بالشكّ، والمتيقّنوالمشكوك في المقام هو الموضوع لا الحكم.
نعم، جريان الاستصحاب في الموضوع إنّما هو بلحاظ أثره الشرعيكما قلنا سابقا، إذ الشارع بما هو شارع لا يتعبّدنا ببقاء موضوع ليس لهأثر شرعي.
والحاصل: أنّ جريان الاستصحاب في الموضوعات لا يقتضي إلاّ التعبّدببقائها، وأمّا آثارها الشرعيّة ـ وإن كانت آثارا بلا واسطة ـ فالدليل الدالّعليها غير أخبار الاستصحاب.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ أساس الإشكال في المقام إنّما هو عدم إمكانشمول أخبار الاستصحاب الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم الشرعيّة، لعدمشمول عنوانها إيّاها أوّلاً، ولزوم تقدّم الشيء على نفسه ثانيا، ونحن أيضنسلّم ذلك، إلاّ أنّا نقول: إذا جرى الاستصحاب في الموضوع بمقتضى أخبارالباب يترتّب عليه أثره الشرعي بمقتضى دليل آخر، ولو كان الأثر أيضاً ذأثر شرعي يترتّب عليه بمقتضى دليل ثالث، وهكذا، مثلاً إذا استصحبنا خمريّةمايع يترتّب عليه الحرمة، ولو كان لحرمة الخمر أيضاً أثر شرعي ـ كارتدادمنكرها فرضا، لكونها من ضروريّات الدين مثلاً ـ يترتّب عليها هذا الأثر،لكن دليل الاستصحاب لا يتكفّل إلاّ التعبّد ببقاء خمريّة المايع، لكنّ المايعيصير بعد جريان استصحاب خمريّته موضوعا تعبّديّا لدليل حرمة الخمر،
ج6
وإذا ثبتت حرمته يتحقّق موضوع دليل ارتداد منكرها، فترتّب كلّ من الآثارإنّما هو بدليل خاصّ به، لا بدليل الأصل، حتّى يلزم الإشكال.
بقي هنا اُمور ينبغي التنبيه عليها:
آثار اللوازم العقليّة والعاديّة
الأوّل: أنّ ما ذكرنا يختصّ بآثار اللوازم الشرعيّة فقط، وأمّا اللوازم العقليّةوالعاديّة إذا كانت لها آثار شرعيّة فلا يمكن ترتيب آثارها لأجل جريانالأصل في ملزومها، لأنّ الأثر لا يترتّب إلاّ بعد ثبوت موضوعه إمّبالوجدان، أو بالبيّنة، أو بالتعبّد، واللوازم العقليّة والعاديّة فاقدة لجمعيها، فإنّإذا استصحبنا حياة زيد لم نعلم ببلوغه ثمانين عاما مثلاً ولم تقم بيّنة على ذلك،وهذان واضحان، وأمّا التعبّد فلأنّ دليله ـ أعني «لا تنقض اليقين بالشكّ» لا يجري إلاّ في الحياة، وأمّا بلوغه ثمانين عاما فلم يكن متيقّنا، فلا يجريالاستصحاب فيه، بل عدمه كان متيقّنا ومجرى الاستصحاب.
فالفرق بين اللوازم الشرعيّة وبين اللوازم العقليّة والعاديّة أنّ الاُولىتترتّب على المستصحب بدليل شرعي غير دليل الاستصحاب، والثانية فاقدةلهذا الدليل، فتترتّب آثار الاُولى دون الثانية.
آثار ملازمات المستصحب وملزوماته
الثاني: أنّ المستصحب إذا كان موضوعا ذا أثر شرعي، يترتّب عليه، ولوكان لأثره أيضاً أثر شرعي، يترتّب هذا الأثر أيضاً على موضوعه ـ أعني علىالأثر الأوّل ـ وهذا ما أثبتناه آنفا.
فهل يترتّب على الموضوع المستصحب أثر ملازمه وملزومه أيضاً إذا كانله ملازم أو ملزوم ذو أثر شرعي أم لا؟
(صفحه248)
ولا يخفى عليك أنّ البحث إنّما يكون فيما إذا كان الملازم من الموضوعات.
وأمّا إذا كان حكما شرعيّا فلا إشكال في ترتّبه وترتّب أثره بمقتضىالملازمة، كما أنّ البحث فيما إذا كانت الملازمة عقليّة، لأنّها لو كانت شرعيّة فلريب في ثبوت الملازم باستصحاب الملازم، فيترتّب عليه أثره.
إذا عرفت ذلك فنقول: لا يثبت بالاستصحاب آثار ملازم المستصحب ولآثار ملزومه، لأنّ الاستصحاب لا يجري فيهما، مع أنّ الآثار لهما لللمستصحب.
نعم، لو كان لهما حالة سابقة متيقّنة يجري الاستصحاب فيهما ويترتّبعليهما آثارهما، لكنّه خارج عن محلّ البحث.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما يترتّب على استصحاب الموضوع إنّما هوآثاره الشرعيّة، سواء كانت بلا واسطة أو مع واسطة أو وسائط شرعيّة، وأمّالآثار المترتّبة على ملزوماته أو ملازماته أو لوازمه العقليّة أو العاديّة فلتترتّب عليه.
الآثار المترتّبة على المستصحب مع الوسائط الخفيّة
الثالث: أنّه إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي خفيّة يجريالاستصحاب ويترتّب عليه الأثر، والمراد من خفاء الواسطة أنّ العرف ـ ولوبالنظر الدقيق(1) ـ لا يرى وساطة الواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع
- (1) فإنّ للعرف نظرين: نظر مسامحي، كحكمه على الحنطة التي فيها قطعات يسيرة من الطين اليابسويكون مجموعها مأة منّ بأنّ الحنطة مأة منّ، فإنّ هذا نظر مسامحي، لأنّه يرى قطعات الطين، إلاّ أنّه ليعتدّ بها، لكونها قليلة جدّا، ونظر دقّي، كحكمه على ما بقي في الثوب من أثر الدم بعد زوال جرمهبالغسل بأنّه لون لادم، فإنّه نظر عرفي دقيق، لأنّا إن سألناه عن حكمه هل تسامح فيه؟ قال: لا، إنّي لا أرىالدم في الثوب أصلاً، والذي بقي فيه لا يكون إلاّ لونا حقيقةً، لكنّ العقل يحكم بكونه دما، لاستحالةانتقال العرض عنده، فالعرف له نظران: مسامحي ودقّي، وليس للعقل إلاّ نظر واحد. منه مدّ ظلّه.