(صفحه248)
ولا يخفى عليك أنّ البحث إنّما يكون فيما إذا كان الملازم من الموضوعات.
وأمّا إذا كان حكما شرعيّا فلا إشكال في ترتّبه وترتّب أثره بمقتضىالملازمة، كما أنّ البحث فيما إذا كانت الملازمة عقليّة، لأنّها لو كانت شرعيّة فلريب في ثبوت الملازم باستصحاب الملازم، فيترتّب عليه أثره.
إذا عرفت ذلك فنقول: لا يثبت بالاستصحاب آثار ملازم المستصحب ولآثار ملزومه، لأنّ الاستصحاب لا يجري فيهما، مع أنّ الآثار لهما لللمستصحب.
نعم، لو كان لهما حالة سابقة متيقّنة يجري الاستصحاب فيهما ويترتّبعليهما آثارهما، لكنّه خارج عن محلّ البحث.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما يترتّب على استصحاب الموضوع إنّما هوآثاره الشرعيّة، سواء كانت بلا واسطة أو مع واسطة أو وسائط شرعيّة، وأمّالآثار المترتّبة على ملزوماته أو ملازماته أو لوازمه العقليّة أو العاديّة فلتترتّب عليه.
الآثار المترتّبة على المستصحب مع الوسائط الخفيّة
الثالث: أنّه إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي خفيّة يجريالاستصحاب ويترتّب عليه الأثر، والمراد من خفاء الواسطة أنّ العرف ـ ولوبالنظر الدقيق(1) ـ لا يرى وساطة الواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع
- (1) فإنّ للعرف نظرين: نظر مسامحي، كحكمه على الحنطة التي فيها قطعات يسيرة من الطين اليابسويكون مجموعها مأة منّ بأنّ الحنطة مأة منّ، فإنّ هذا نظر مسامحي، لأنّه يرى قطعات الطين، إلاّ أنّه ليعتدّ بها، لكونها قليلة جدّا، ونظر دقّي، كحكمه على ما بقي في الثوب من أثر الدم بعد زوال جرمهبالغسل بأنّه لون لادم، فإنّه نظر عرفي دقيق، لأنّا إن سألناه عن حكمه هل تسامح فيه؟ قال: لا، إنّي لا أرىالدم في الثوب أصلاً، والذي بقي فيه لا يكون إلاّ لونا حقيقةً، لكنّ العقل يحكم بكونه دما، لاستحالةانتقال العرض عنده، فالعرف له نظران: مسامحي ودقّي، وليس للعقل إلاّ نظر واحد. منه مدّ ظلّه.
ج6
المستصحب ويكون لدى العرف ثبوت الحكم من غير واسطة، وإنّما يرىالعقل بضرب من البرهان كون الأثر مترتّبا على الواسطة، وإن كان مترتّبعلى ذي الواسطة عرفا.
ومثّل لذلك سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» مثالاً لا يخلو من المناقشة،إلاّ أنّه يقرّب المطلب إلى الأذهان.
قال«مدّ ظلّه»: مثاله أنّ الشارع إذا قال: «حرّم عليكم الخمر» يكون الموضوعللحرمة هو الخمر عرفا، لكنّ العقل يحكم بأنّ ترتّب الحرمة على الخمر ليمكن إلاّ لأجل مفسدة قائمة به تكون تلك المفسدة علّة واقعيّة للحرمة، ثمّ لوفرض أنّ العقل اطّلع على جميع الخصوصيّات الواقعيّة للخمر وحكمبالدوران والترديد أنّ العلّة الواقعيّة للحرمة هي كونها مسكرةً مثلاً، فيحكمبأنّ إسكار الخمر علّة لثبوت الحكم بالحرمة، ثمّ يحكم بأنّ موضوع الحرمةليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعيّة، بل الموضوع هو المسكر بما أنّهمسكر، ولمّا كان هو متّحدا في الخارج مع الخمر يحكم بحرمتها بحسب الظاهر،ولكنّ الموضوع الواقعي ليس إلاّ حيثيّة المسكريّة، لأنّ الجهات التعليليّة هيالموضوعات الواقعيّة لدى العقل، فإذا علم أنّ مايعا كان خمرا سابقا وشكّ فيبقاء خمريّته فلا إشكال في جريان استصحاب الخمريّة وثبوت الحرمة له.
ولا يصحّ أن يقال: إنّ استصحاب الخمريّة لا يثبت المسكريّة التي هيموضوع الحكم لدى العقل إلاّ بالأصل المثبت، لأنّ ترتّب الحرمة إنّما يكونعلى المسكر أوّلاً وبالذات وعلى الخمر ثانيا وبالواسطة، وذلك لأنّ الواسطةعقليّة خفيّة لا يراها العرف واسطة، وليس المراد بخفاء الواسطة أنّ العرفيتسامح وينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة مع رؤيتها، لأنّ الموضوع
(صفحه250)
للأحكام الشرعيّة ليس ما يتسامح فيه العرف، بل الموضوع للحكم هوالموضوع العرفي حقيقةً ومن غير تسامح.
والسرّ في كون الموضوع للأحكام الشرعيّة هو الموضوع العرفي لا العقليأنّ الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الاُمّة إلاّ كسائر الناس ويكون فيمحاوراته وخطاباته كمحاورات بعض الناس بعضا، فكما أنّ المقنّن العرفي إذحكم بنجاسة الدم لا يكون موضوعها إلاّ ما يفهمه العرف، كذلك الشارعبالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف(1).
هذا حاصل كلامه«مدّ ظلّه» ملخّصا.
وهو متين، إلاّ أنّ مثاله لا يخلو من المناقشة كما أشرنا إليه؛ لأنّ الواسطةالتي هي الإسكار لها حالة سابقة متيقّنة وجوديّة، مع أنّ محلّ النزاع ـ كمعرفت ـ إنّما هو فيما إذا لم تكن الواسطة كذلك، وإلاّ جرى الاستصحاب فيهويترتّب عليها أثرها من دون شبهة المثبتيّة ولو كانت واسطة جليّة يراهالعرف.
فاتّضح ممّا ذكرنا إلى هنا أمران: أ ـ أنّ المراد بالواسطة الخفيّة ما يدركهالعقل ولا يدركه العرف حتّى بالنظر الدقّى، ب ـ أنّ السرّ في جريانالاستصحاب وترتّب الأثر عليه إذا كانت الواسطة خفيّة أنّ الشارع فيمحاوراته وخطاباته يكون كسائر الناس في محاوراتهم وخطاباتهم، فإنّالخطابات الشرعيّة ملقاة على العرف، فلابدّ من أخذ معانيها منه، فإذا حكمبعدم الواسطة بين الحرمة والخمر كان متّبعا ولا يلتفت إلى حكم العقل بتحقّقالواسطة.
نقد كلام الشيخ رحمهالله فيما ذكره مثالاً لخفاء الواسطة
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 183.
ج6
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم رحمهالله ذكر لخفاء الواسطة مثالين، مع أنّ الواسطة في كليهممن قبيل الوسائط الجليّة التي يدركها العرف ويكون الأصل فيها مثبتا كمستعرف.
الأوّل: استصحاب رطوبة النجس لإثبات نجاسة ملاقيه.
فإنّه «أعلى اللّه مقامه» قال: إنّ تنجّس الملاقي لا يكون إلاّ لأجل سرايةالنجاسة إليه وتأثّره عن النجاسة الرطبة، إلاّ أنّ السراية واسطة خفيّةلا يدركها العرف، فإنّه يحكم بأنّ نجاسة الملاقي أثر ملاقاته للنجس الرطبمن غير واسطة(1).
وفيه: أنّه إن أراد أنّ العرف لا يدرك السراية بالنظر المسامحي فغير مفيد،وإن أراد أنّه لا يراها حتّى بالنظر الدقّي فغير صحيح.
الثاني: استصحاب عدم هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان لإثباتكون الغد أوّل شوّال وعيدا ليترتّب عليه أحكام يوم العيد الذيهو أوّل شوّال، من حرمة الصوم فيه ووجوب صلاة العيد أو استحبابهونحو ذلك.
فإنّه رحمهالله قال: هذه الأحكام وإن كانت آثارا لأوّل شوّال، إلاّ أنّ العرفيراها آثارا لعدم دخول شوّال في الأمس الذي شكّ في كونه آخر رمضان أوأوّل شوّال، فاستصحاب بقاء رمضان وعدم دخول شوّال وإن كان لازمهالعقلي كون الغد عيدا، إلاّ أنّ هذا اللازم واسطة خفيّة لا يراها العرف، فيترتّبآثارها على الملزوم عندهم بلا واسطة(2).
أقول: هذا مثال يكثر الابتلاء به، فإنّ اليوم الذي شكّ في أنّه هل هو آخر
- (1) فرائد الاُصول 3: 244.
- (2) فرائد الاُصول 3: 245.
(صفحه252)
ذي القعدة أو أوّل ذي الحجّة من هذا القبيل، فالشيخ رحمهالله يجري استصحابعدم دخول ذي الحجّة لإثبات تاسعه وعاشره ليترتّب عليهما آثارهما منوجوب الوقوف بعرفات والمشعر ونحو ذلك.
لكن فيه ما في المثال الأوّل، لأنّ أوّليّة شوّال مثلاً التي هي الواسطة بينالحكم والمستصحب ليست ممّا لا يدركه العرف ولا يراه واسطة.
نعم، لو كانت الأوّليّة مركّبةً من كون اليوم الحاضر جزءاً للشوّال وعدمكون الأمس جزءاً له لأمكن إثباتها بالوجدان والأصل، فإنّ الجزء الأوّلمقطوع به، لأنّ المشكوك فيه هو كون اليوم الحاضر أوّل شوّال أو ثانيه، وأمّجزئيّته له فهو معلوم لنا، والجزء الثاني ـ أعني عدم كون الأمس جزءلشوّال ـ مدلول الاستصحاب، فلو كانت الأوّليّة مركّبة منهما يمكن إثباتها كييترتّب عليها أثرها.
لكنّه مجرّد فرض، إذ الأوّليّة أمر بسيط يعبّر عنه بالمبدئيّة، وكونها مركّبةممّا ذكر واضح الفساد.
فحينئذٍ بقي الإشكال في الأحكام المترتّبة على اليوم الأوّل أو العيدأو اليوم التاسع والعاشر في أعمال الحجّ، وكذا سائر الأحكام المتعلّقةبعناوين الأيّام.
ولقد تصدّى بعضهم(1) لدفع الإشكال بما لا يخلوا عن غرابة، وهو الالتزامبأنّ اليوم الأوّل في موضوع الأحكام غير اليوم الأوّل الواقعي، فإنّه عبارة عنيوم رؤية الهلال أو اليوم الواحد والثلاثين من الشهر الماضي، فالمراد من ثامنذي الحجّة هو الثامن من رؤية الهلال أو بعد انقضاء ثلاثين يوما من ذيالقعدة، سواء كان مطابقا للواقع أو لا.
- (1) الظاهر أنّه المحقّق النائيني«أعلى اللّه مقامه». راجع فوائد الاُصول 4: 499. م ح ـ ى.