ج6
وفيه: أنّه خلاف ظاهر الأدلّة الشرعيّة، فإنّ ظاهرها أنّ الطبايع هيموضوعات الأحكام لا المصاديق الخارجيّة، إذ اللام في مثل قوله: «الخمرحرام» للجنس لا للاستغراق، والمراد من مدخولها ـ أعني «خمر» ـ أيضطبيعة الخمر وماهيّتها، لا أفرادها الخارجيّة.
الحقّ في دفع الإشكال
وقال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» لدفع إشكال المثبتيّة ما حاصله:أنّ هاهنا اُمورا ثلاثة: أحدها: عنوان الكلّي بما أنّه كلّي، كالإنسان، والثاني:عنوان الفرد الذي يتّحد معه خارجا ومختلف اعتبارا وحيثيّةً، كزيد، والثالث:عنوان الكلّي المتحقّق في الخارج المتشخّص في العين، كالإنسانيّة المتحقّقة فيالخارج في ضمن أحد أفراده، ويجري الاستصحاب في الأوّل والثالث لترتيبآثار العنوان الكلّي دون الثاني، أمّا في الأوّل فلا كلام فيه، وأمّا في الثالث فلينبغي الإشكال فيه، إذ الأحكام في لسان الأدلّة وإن تعلّقت بالعناوين الكلّيّةبما أنّها كلّيّة، إلاّ أنّ العرف يحكم بسرايتها إلى العناوين المتحقّقة في الخارجالمتشخّصة في العين، فإذا قال الشارع: «الخمر حرام» كان الموضوع هو الخمربعنوانها الكلّي، إلاّ أنّ الحكم يسري عند العرف إلى مصداقها الخارجي، لأنّالعناوين الطبيعيّة موجودة بوجود المصاديق عندهم، فإذا شكّ في بقاء خمريّةمايع يستصحب بقائها ويترتّب عليها أثرها، وهو الحرمة والنجاسة.
وبالجملة: فرق بين استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلّي، كاستصحاب بقاءزيد عند الشكّ في بقائه لترتيب آثار الإنسان عليه، واستصحاب بقاء المايعالخارجي عند الشكّ في بقائه لترتيب آثار الخمر عليه، وبين استصحاب
(صفحه258)
العنوان المنطبق على الخارج، كاستصحاب إنسانيّة زيد مثلاً وخمريّة هذا المايعلترتيب آثار الإنسان والخمر عليهما، فالثاني يجري، لأنّه استصحاب نفسالعنوان المتحقّق في الخارج، فهو كاستصحاب نفس الكلّي لترتيب آثاره، وأمّالأوّل فلا يجري عندنا(1)، لكونه مثبتا، لأنّ بقاء زيد يلازم عند العقل بقاءالإنسان، وبقاء المايع الخارجي يلازم عنده بقاء الخمر، فترتيب الآثار ليكون بلا واسطة، بل بواسطة الملازمة العقليّة، فيكون مثبتا(2).
هذا حاصل ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في المقام، وهودقيق متين.
المقام الثاني: فيما ذكره صاحب الكفاية من التفصيل بين الخارج المحمولوالمحمول بالضميمة، فقال بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.
وفيه ـ مع قطع النظر عن صحّة تفسير الخارج المحمول بالأعراضالاعتباريّة، والمحمول بالضميمة بالأعراض الحقيقيّة، وعدمها(3) ـ إشكال مهمّأورده عليه بعض الأعلام، وهو أنّه إن أراد من هذا التفصيل أنّ استصحابالفرد يجري في الأوّل لترتيب آثار الكلّي عليه دون الثاني، فهو باطل؛ لأنّالاستصحاب كما يجري في ملكيّة زيد لمال لترتيب آثار الملكيّة من جوازتصرّفه فيه وعدم جواز تصرّف الغير فيه بدون إذنه، فكذلك إذا شكّ في بقاءفرد من أفراد المحمول بالضميمة، كعدالة زيد مثلاً، فباستصحاب هذا الفردتترتّب آثار مطلق العدالة، كجواز الاقتداء به ونحوه، فلا وجه للفرق بينالخارج المحمول والمحمول بالضميمة في ذلك.
وإن كان مراده أنّ الاستصحاب يجري في منشأ الانتزاع ويترتّب عليه أثر
- (1) وإن كان قضيّة كلام المحقّق الخراساني وبعض الأعلام جريانه. منه مدّ ظلّه.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 187.
- (3) راجع ـ للاطّلاع على فساد هذا التفسير ـ الرسائل، مبحث الاستصحاب: 188.
ج6
الأمر الانتزاعي الذي يكون لازما له على فرض بقائه فيما إذا كان هذا الأمرالانتزاعي اعتباريّا، لا فيما إذا كان له حقيقة وما بإزاء خارجي، فهو مثبت فيكليهما، بل هو من أوضح مصاديق الأصل المثبت، فإذا علمنا بوجود جسم فيمكان، ثمّ علمنا بوجود جسم آخر في أسفل من المكان الأوّل، مع الشكّ فيبقاء الجسم الأوّل في مكانه، لم يكن ترتيب آثار فوقيّته على الجسم الثانيباستصحاب وجوده في مكانه الأوّل، فإنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت،وكذلك لا يمكن إثبات زوجيّة امرأة خاصّة لزيد مع الشكّ في حياتها، وإنعلم أنّها على تقدير حياتها تزوّجت به يقينا(1).
القول في استصحاب الجزء والشرط وعدم المانع
المطلب الثاني: قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا تفاوت في الأثر المستصحب أوالمترتّب عليه بين أن يكون مجعولاً شرعا بنفسه، كالتكليف وبعض أنحاءالوضع، مثل الملكيّة والزوجيّة والحرّيّة والرقّيّة ونحوها، أو بمنشأ انتزاعه،كبعض أنحائه(2)، كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، فإنّه أيضاً ممّا تناله يد الجعلشرعا، ويكون أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعهورفعه، ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلكما لا يخفى(3).
أقول: هذا كلام متين، لكنّه رحمهالله فرّع عليه جواب إشكال في المقام، مع أنّه ليكون متفرّعا عليه.
حاصل الإشكال: أنّه لا يمكن جريان الاستصحاب في الشرط أو الجزء
- (1) مصباح الاُصول 3: 171.
- (2) أي بعض أنحاء الوضع. م ح ـ ى.
(صفحه260)
أو المانع، لأنّها لا تكون من المجعولات الشرعيّة، ولا من الموضوعات التي لهأثر شرعي.
وحاصل الجواب: أنّ الاستصحاب يجري فيها لترتّب الشرطيّة والجزئيّةوالمانعيّة عليه، لأنّها آثار شرعيّة لها ولو كان جعلها بتبع جعل منشأ انتزاعها،فلا إشكال في استصحاب بقاء الوضوء مثلاً لترتيب شرطيّته للصلاة(1).
نقد كلام صاحب الكفاية في ذلك
ويرد عليه أنّ الأثر المترتّب على المستصحب لابدّ من أن يكون مشكوكفيه، كما أنّا إذا شككنا في بقاء خمريّة مايع شككنا في حرمة هذا المايع أيضاً،والمقام ليس كذلك، لأنّا لا نشكّ في بقاء شرطيّة الوضوء للصلاة، فإنّه معلوملنا، والمشكوك هو بقاء الوضوء.
نعم، لو احتملنا نسخ شرطيّته لها لكان الشكّ في بقاء الشرطيّة، لكنّه ليرتبط بالمقام كما لا يخفى.
إشكال مهمّ في استصحاب بقاء الشرط
ويشكل أيضاً استصحاب بقاء الشرط أو عدم المانع ليترتّب عليه كونالمأمور به مقيّدا بالشرط أو بعدم المانع، فإذا شككنا في بقاء الوضوء أو فيكون الثوب الذي لبسناه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه يشكل استصحابالوضوء لإحراز وقوع الصلاة مع الوضوء، واستصحاب عدم لابسيّة غيرالمأكول لإحراز كون الصلاة بلا مانع، لأنّ وقوع الصلاة مع الوضوء لازمعقلي للمستصحب، فيكون الأصل مثبتا، وهكذا استصحاب عدم المانع.
ج6
بل لو قلنا بحجّيّة الأصل المثبت لم يكن أيضاً لوقوع الصلاة مع الوضوء أثرشرعي كي يترتّب على الاستصحاب، لأنّ موافقة الأمر الموجبة لسقوطهلازم عقلي له، لا أثر شرعي.
فعلى هذا استصحاب بقاء الشرط يكون مثبتا، مع أنّا لو قلنا بعدم جريانهللزم خروج مورد الصحيحة الاُولى والثانية لزرارة، فإنّ مورد الاُولى هوالوضوء، لأنّه عليهالسلام قال: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدبالشكّ»(1) ومورد الثانية طهارة الثوب، لأنّه عليهالسلام قال: «لأنّك كنت على يقينمن طهارتك(2) ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا»(3)وكلاهما ـ أعني الوضوء وطهارة الثوب ـ شرطان للصلاة.
على أنّ القول بعدم جريان استصحاب الشرط مخالف للفتاوى أيضاً.
هذه مشكلة مهمّة، وملخّصها أنّا لو قلنا بجريان الاستصحاب في الشرطيكون مثبتاً، ولو قلنا بعدم جريانه للزم خروج مورد الصحيحتين ومخالفةالفتاوى.
على أنّهم قالوا بجريان استصحاب مثل الوضوء دون استصحاب مثل عدملابسيّة غير المأكول، ولا يتّضح وجه الفرق بينهما.
ولا يمكن أن يقال: إنّ الطهارة من شرائط المصلّي لا الصلاة، وعدمالمأكوليّة من موانع الصلاة بحسب الأدلّة، فإحراز طهارة المصلّي بالاستصحابيكفي لصحّة صلاته، لكن استصحاب عدم لابسيّة المصلّي غير المأكوللا يثبت تقيّد الصلاة بعدم كونها مع المانع إلاّ بالأصل المثبت.
وذلك لأنّ لسان روايات شرطيّة الطهارة هو شرطيّتها للصلاة، كما أنّ
- (1) وسائل الشيعة 1: 246، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
- (2) يعني: من طهارة ثوبك. م ح ـ ى.
- (3) وسائل الشيعة 3: 466، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1.