ج6
«وجوب إكرام العلماء مستمرّ» لما عرفت في المقدّمات أنّ إخراجالموضوع عن الموضوعيّة ليس تصرّفا في العموم أو الإطلاق، وقد يدلّعلى عدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة، فيكون تصرّفا في قوله:«وجوب إكرامهم مستمرّ» لا في قوله: «أكرم العلماء» لأنّ المفروض أنّقوله: «أكرم العلماء» متعرّض للعموم الأفرادي، لا الاستمرار الزماني،فتقطيع زمان من وجوب إكرامهم تصرّف فيما يتعرّض للاستمرار الزماني،فإذا كان ذلك في كلام واحد ودليل متّصل، كقوله: «أكرم العلماء مستمرّا»ينحلّ إلى عموم أفرادي يدلّ عليه الجمع المحلّى باللام وإلى استمرار الحكمالذي يدلّ عليه ظهور القيد الذي قام مقام مقدّمات الحكمة في بعض المقامات،فيكون قوله: «لا تكرم زيدا» تخصيصا للعموم الأفرادي، و«لا تكرمه يومالجمعة» تقطيعا لاستمرار الحكم، وكما يكون العموم حجّة في البقيّة لدىالعقلاء يكون ظهور القيد في استمرار الحكم حجّة فيما عدا مورد التقطيعالقطعي لديهم.
وممّا ذكرنا يعلم حال الإطلاق المستفاد من دليل الحكمة، فلو فرض أنّقوله: «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» كما يدلّ بالعموم اللغوي على الشمول الأفرادي يدلّعلى الاستمرار الزماني بمقدّمات الحكمة أو مناسبة الحكم والموضوع، بمعنى أنّلزوم الوفاء بكلّ عقد مستمرّ، لا من قبيل العامّ المجموعي، بل بحيث تكونالمخالفة في بعض الأزمان لا توجب سقوط المطلوبيّة بالنسبة إلى البقيّة، ثمّ دلّدليل على عدم وجوب الوفاء بعقد ـ كالعقد الربوي ـ يكون مخصّصا للعمومالأفرادي، ولا يكون مقيّدا للإطلاق، بل رافعا لموضوعه.
وأمّا لو دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان ـ كما لو انعقدالإجماع على عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة مثلاً ـ يكون
(صفحه314)
هذا تقييدا لإطلاقه، لا تخصيصا لعمومه، لأنّ التخصيص عبارة عن إخراج ميشمله العموم إخراجا حكميّا، والعموم اللغوي يدلّ على دخول تمام أفرادالعقود في وجوب الوفاء من غير تعرّض لحالات الأفراد وأزمانها، ودليلالمخرج لا يدلّ على خروج فرد من العامّ رأسا حتّى يكون تخصيصا، بل يدلّعلى خروجه في زمان، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الاستمرار، فإذا شكّفيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشكّ في زيادة القيد لا التخصيص،فالمرجع هو أصالة الإطلاق.
فقول الشيخ الأعظم قدسسره : «إنّه لا يلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرجالفرد في ساعة أو بعد الساعة مستمرّا» خلط بين التخصيص والتقييد، لأنّخروج الفرد في ساعة تقييد لا تخصيص، وخروجه في الزائد عن الساعة تقييدزائد يدفع بالأصل(1)، إنتهى كلامه«مدّ ظلّه».
ثمّ إنّه أجاب عن إشكالين، نذكر حاصل كلامه فيهما.
الفرق بين هذا المطلق وبين سائر المطلقات
فإنّه قال: إن قلت: فرق بين المطلق في سائر المقامات والمطلق الزماني الذينحن فيه، فإنّ قوله: «أعتق رقبةً» يعمّ جميع أفراد الرقبة بإطلاقه، لأنّ أفرادهفي عرض واحد، وكلّهم موجود في الخارج بالفعل، فإذا خرج عنه الرقبةالكافرة بدليل آخر، فإن شككنا في خروج الأسود أيضاً فلابدّ من التمسّكبالإطلاق، وأمّا في الاستمرار الزماني فإنّ الزمان أمر واحد مستمرّ يوجدجزء منه وينعدم ثمّ يوجد جزء آخر وهكذا، وليس جامعا لأفراد كثيرة، فإذانقطع الاستمرار بخروج فرد يوم الجمعة مثلاً فليس لهذا العامّ دلالة على
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 207.
ج6
دخول ذلك الفرد يوم السبت؛ إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمرارللحكم السابق.
هذا إذا استفيد الاستمرار الزماني من مقدّمات الحكمة.
نعم، إذا كان الاستمرار بالدليل اللفظي، كأن يلاحظ الزمان قطعاتمستقلّة وجعل كلّ قطعة منها ملحوظا في القضيّة، كأن يقول: «أكرم العلماء كلّيوم، أو مستمرّا» ثمّ قال: «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» كان المرجع هو التمسّكبالعموم فيها بعد مورد المخصّص، أعني يوم السبت.
قلت: نعم، هذا ما أفاده شيخنا العلاّمة(1) أعلى اللّه مقامه.
وفيه أوّلاً: أنّ المطلق في سائر المقامات أيضاً لا يفيد الحكم للأفراد وليكون الحكم بلحاظ الأفراد الخارجيّة استغراقا وبدلاً، ولم يكن المطلق بعدتماميّة مقدّمات الإطلاق كالعامّ مفادا، بل ليس مقتضى الإطلاق بعد تماميّةالمقدّمات إلاّ أنّ ما اُخذ في الموضوع ـ كالرقبة ـ تمام الموضوع للحكم، وأمّالسريان والشيوع فهو مفاد العامّ، لا المطلق، كما هو المقرّر في محلّه.
وثانيا: ما الفرق بين كون الاستمرار الزماني مستفادا من قوله: «مستمرّا»وبين كونه مستفادا من مقدّمات الحكمة، حيث ذهبتم إلى بقائه في الزمانالمشكوك فيه في الأوّل دون الثاني؟ فإنّ كون الزمان المستمرّ أمرا واحدمشترك بينهما، فإذا استلزم خروج جزء منه انقطاع الاستمرار في الثاني استلزمأيضاً في الأوّل، فالفرق بينهما تحكّم.
الفرق بين كون العموم الأزماني قيدا للحكم وبين كونه قيدا لمتعلّقه
- (1) يعني به المحقّق الحائري اليزدي مؤسّس الحوزة العلميّة بقم المقدّسة قدسسره . راجع درر الفوائد: 570.م ح ـ ى.
(صفحه316)
ثمّ قال: فإن قلت(1): إنّ العموم الأزماني على قسمين: لأنّه إمّا أن يلاحظقيدا(2) للحكم، أو لمتعلّقه.
والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أنّه إن كان قيدا للمتعلّق يمكن بيانه في نفس دليل الحكم، كأنيقال: «أكرم العلماء في كلّ يوم أو أبدا أو مستمرّا» فكان معناه «إكرام العلماءفي كلّ يوم أو أبدا أو مستمرّا واجب» بخلاف ما إذا كان قيدا للحكم، فلابدّمن بيانه في دليل مستقلّ، لكون الحكم بمنزلة موضوعه، وحيث إنّ الموضوعمتقدّم على الحكم فلا يمكن بيانهما في دليل واحد، فلا بدّ له من أن يقول أوّلاً:«أكرم العلماء» ثمّ يقول بدليل منفصل: «هذا الوجوب يكون في كلّ يوم أومستمرّا».
الثاني: أنّه إن كان قيدا للمتعلّق يمكن التمسّك بالعموم في موارد الشكّ، فلوقال: «أكرم العلماء في كلّ يوم» ثمّ قال: «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» وشكّ فيوجوب إكرامه يوم السبت يتمسّك بعموم وجوب إكرام العلماء في كلّ يوم،لأنّ الموضوع ـ وهو الإكرام في كلّ يوم ـ محرز بالنسبة إلى زيد، وإنّما الشكّ فيخروجه عن الحكم في يوم السبت، وهو الشكّ في تخصيص الزائد، فيرجع إلىالحكم ـ أعني وجوب الإكرام ـ كسائر موارد الشكّ في تخصيص الزائد.
بخلاف ما إذا كان قيدا للحكم، إذ لا يمكن التمسّك بالدليل الثاني المبيّنللاستمرار، لأنّ الموضوع في قوله: «هذا الوجوب يكون مستمرّا أو في كلّيوم» هو الوجوب، وإنّما الشكّ في تحقّق أصل الوجوب بالنسبة إلى يومالسبت، فكيف يتمسّك بهذا الدليل بدون إحراز موضوعه؟
- (1) القائل هو المحقّق النائيني رحمهالله . راجع فوائد الاُصول 4: 535 ـ 542. م ح ـ ى.
- (2) أي راجعا إلى الحكم، ولا يراد منه القيد المقابل للظرف. م ح ـ ى.
ج6
فالحاصل: أنّ العموم الأزماني إن كان قيدا لمتعلّق الحكم يرجع في مواردالشكّ في التخصيص إلى العموم، وإن كان قيدا لنفس الحكم فلا، ولا فرق فيذلك بين أن يستفاد العموم الأزماني والاستمرار بدليل لفظي، أو بمقدّماتالحكمة كما في قوله تعالى: «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» على فرض إطلاقه بالنسبة إلىالأزمان.
قلت: هذا صحيح لو كان الدليل الثاني بنحو القضيّة الضروريّة بشرطالمحمول، أي كان قوله: «الحكم بالوجوب مستمرّ» بمعنى «الحكم بالوجوبالمستمرّ مستمرّ» لكنّ الظاهر أنّ الموضوع اُخذ بالنسبة إلى المحمول على نحوقضيّة مهملة، لعدم ترتّب فائدة على الضروريّة بشرط المحمول، ووجوبالإكرام المستمرّ(1) وإن لم يحرز بالنسبة إلى زيد، إلاّ أنّ أصل الوجوب بالنسبةإليه محرز، وقد عرفت أنّ الموضوع في الدليل الثاني هو أصل الوجوب بنحوالمهملة، لا المستمرّة، فموضوع هذا الدليل محرز، وإنّما الشكّ في محموله ـ أعنيالاستمرار ـ فيتمسّك به لإثباته(2).
هذا حاصل ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» عمّا أفادهالمحقّق النائيني رحمهالله في المقام.
ويمكن المناقشة أيضاً في قوله بعدم إمكان بيان الحكم والعموم الأزماني فيدليل واحد إذا كان العموم الأزماني راجعا إلى الحكم، إلاّ أنّ الإمام«مدّ ظلّه»لميكن بصدد بيان جميع إشكالات كلامه رحمهالله .
في تقرير التفصيل بين الخروج من الأوّل والأثناء
- (1) صفة للوجوب، لا للإكرام. م ح ـ ى.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 209.