ج6
فالحاصل: أنّ العموم الأزماني إن كان قيدا لمتعلّق الحكم يرجع في مواردالشكّ في التخصيص إلى العموم، وإن كان قيدا لنفس الحكم فلا، ولا فرق فيذلك بين أن يستفاد العموم الأزماني والاستمرار بدليل لفظي، أو بمقدّماتالحكمة كما في قوله تعالى: «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» على فرض إطلاقه بالنسبة إلىالأزمان.
قلت: هذا صحيح لو كان الدليل الثاني بنحو القضيّة الضروريّة بشرطالمحمول، أي كان قوله: «الحكم بالوجوب مستمرّ» بمعنى «الحكم بالوجوبالمستمرّ مستمرّ» لكنّ الظاهر أنّ الموضوع اُخذ بالنسبة إلى المحمول على نحوقضيّة مهملة، لعدم ترتّب فائدة على الضروريّة بشرط المحمول، ووجوبالإكرام المستمرّ(1) وإن لم يحرز بالنسبة إلى زيد، إلاّ أنّ أصل الوجوب بالنسبةإليه محرز، وقد عرفت أنّ الموضوع في الدليل الثاني هو أصل الوجوب بنحوالمهملة، لا المستمرّة، فموضوع هذا الدليل محرز، وإنّما الشكّ في محموله ـ أعنيالاستمرار ـ فيتمسّك به لإثباته(2).
هذا حاصل ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» عمّا أفادهالمحقّق النائيني رحمهالله في المقام.
ويمكن المناقشة أيضاً في قوله بعدم إمكان بيان الحكم والعموم الأزماني فيدليل واحد إذا كان العموم الأزماني راجعا إلى الحكم، إلاّ أنّ الإمام«مدّ ظلّه»لميكن بصدد بيان جميع إشكالات كلامه رحمهالله .
في تقرير التفصيل بين الخروج من الأوّل والأثناء
- (1) صفة للوجوب، لا للإكرام. م ح ـ ى.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 209.
(صفحه318)
ثمّ إنّه«مدّ ظلّه» أورد علي نفسه إشكالاً آخر وأجاب عنه حيث قال:
نعم، قد يقال: إنّ مقتضى ما ذكرت من أنّ العموم والإطلاق الزمانيّينـ سواء كان مستفادا من مثل قوله: «أكرم العلماء في كلّ زمان» أو «أوفوبالعقود مستمرّا» أو من مقدّمات الحكمة ـ متفرّع على العموم الأفرادي، وأنّمحطّ التخصيص الأفرادي غير محطّ التخصيص والتقييد الزمانيّين: هوالتفصيل بين ما إذا خرج فرد في أوّل الزمان وشكّ في خروجه مطلقا أو فيزمان، وبين ما إذا خرج في الأثناء مع العلم بدخوله قبل زمان الخروج،فيتمسّك بالاستصحاب في الأوّل، وبعموم(1) الدليل أو إطلاقه(2) في الثاني؛ لأنّالأمر في الأوّل دائر بين التخصيص الفردي وبين التخصيص الزماني أو تقييدالإطلاق، فيكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص إمّا في العامّالفوقاني، فلا يكون مخالفة للعامّ التحتاني، وإمّا في العامّ التحتاني، فلا يكونمخالفةً للعامّ الفوقاني، أو يكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص فيالعامّ مع بقاء الإطلاق على ظاهره، لأنّ الإخراج الموضوعي ليس مخالفةًللإطلاق، أو تقييدا في الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم، لأنّ تقييد إطلاق دليلالعامّ ليس تخصيصا حتّى يخالف أصالة العموم، فبعد تعارض الأصلين يتمسّكبالاستصحاب(3).
- (1 ، 3) أي العموم أو الإطلاق الزمانيّين. م ح ـ ى.
- (2) حاصله: أنّا نعلم إجمالاً بورود تخصيص في العموم الأفرادي مع بقاء الإطلاق أو العموم الأزماني علىظاهره، أو بورود تخصيص في العموم الأزماني إذا دلّ العموم على استمرار الحكم أو تقييد في الإطلاقإذا ثبت الاستمرار بمقدّمات الحكمة، وذلك لأنّه إذا قال ليلة الجمعة: «أكرم العلماء في كلّ يوم» ثمّ قال:«لا تكرم زيدا يوم الجمعة» ثمّ شكّ في وجوب إكرامه يوم السبت وما بعده فالأمر دائر بين كونه غيرواجب الإكرام في السبت وما بعده أيضاً فلا يكون إكرامه واجبا أصلاً، لا في الجمعة التي هي أوّل زمانوجوب الإكرام، ولا بعدها، فيكون تخصيصا للعامّ الأفرادي ـ أعني «العلماء» ـ وبين كونه واجب الإكرامفي السبت وما بعده، فيكون تخصيصا للعامّ الأزماني ـ أعني «كلّ يوم» ـ فيتعارض الأصلان ويتساقطان،ثمّ يرجع إلى استصحاب حكم الخاصّ. م ح ـ ى.
ج6
ويلحق به ما إذا علم خروجه من الأثناء في الجملة ولا يعلم أنّه خارجمطلقا أو من الأثناء فقط، فيدور الأمر بين التخصيص الفردي والزماني، أوالتخصيص والتقييد.
وأمّا الخارج من الأثناء مع العلم بدخوله تحت حكم العامّ قبل زمان القطعبخروجه، كخيار التأخير(1)، وخيار الغبن، بناءً على كون ظهور الغبن شرطشرعيّا له، فيتمسّك بالعموم أو الإطلاق، للقطع بعدم التخصيص الفردي، بلالأمر دائر بين قلّة التخصيص وكثرته أو قلّة التقييد وكثرته، فيؤخذ بالقدرالمتيقّن ويتمسّك في المشكوك فيه بأصالة العموم أو الإطلاق.
وهذا التفصيل تقريبا عكس التفصيل الذي اختاره المحقّق الخراسانيوشيخنا العلاّمة في مجلس بحثه(2)، إنتهى كلامه«مدّ ظلّه» في تقرير الإشكال.
ثمّ أجاب عنه بثلاثة أوجه، لكنّه ناقش في اثنين منها:
توقّف التعارض على اتّحاد رتبة المتعارضين
الأوّل: قوله: ويمكن أن يقال: إنّ أصالة العموم جارية في العموم الأفراديالفوقاني ولا يعارضها أصالة العموم في العامّ التحتاني الزماني ولا أصالةالإطلاق، لأنّ التعارض فرع كون المتعارضين في الرتبة الواحدة، والعمومالأفرادي في رتبة موضوع العموم والإطلاق الزمانيّين، ففي الرتبة المتقدّمةتجري أصالة العموم من غير معارض، فيرجع التخصيص أو التقييد إلى الرتبةالمتأخّرة.
- (1) أي تأخير إقباض الثمن والمثمن عن ثلاثة أيّام. م ح ـ ى.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 212.
(صفحه320)
اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ العقلاء في إجراء الاُصول لا ينظرون إلى أمثال هذهالتقدّمات والتأخّرات الرتبيّة، مضافا إلى إمكان أن يقال: إنّ لزوم كونالمتعارضين في الرتبة الواحدة في التعارض بالعرض(1) في حيّز المنع، فإنّ العلمالإجمالي بوقوع خلاف ظاهر إمّا في العامّ الفوقاني أو في العامّ التحتاني موجبلسقوط الأصلين العقلائيّين لدى العقلاء(2)، انتهي كلامه في الوجه الأوّلوجوابه.
هل المسألة من مصاديق الدوران بين الأقلّ والأكثر أم لا؟
الثاني: قوله: ويمكن أن يُقال: إنّه بعد ورود قوله: «أكرم العلماء في كل يوم»الذي هو الحجّة على مفاده إذا ورد دليل على عدم وجوب إكرام زيد وكانالمتيقّن منه هو عدمه يوم الجمعة مثلاً فرفع اليد عن العموم أو الإطلاق فيغير يوم الجمعة رفع اليد عن الحجّة من غير حجّة لدى العقلاء، فالمورد منقبيل دوران التخصيص أو التقييد بين الأقلّ والأكثر، فلابدّ من الاكتفاءبالأقلّ في رفع اليد عن الحجّة الفعليّة، والعلم الإجمالي المدّعى كالعلم الإجماليبين الأقل والأكثر المنحلّ عند العقلاء، وبالرجوع إلى الوجدان وبناء العقلاءيظهر صدق ما ادّعيناه.
لكنّه أيضاً محلّ إشكال بل منع، لأنّ مورد الأقلّ والأكثر إنّما هو فيما علمورود التخصيص على أحد العامّين وشكّ في الأقلّ والأكثر في أفراده، وأمّا معالعلم بورود التخصيص آنا(3) في الفوقاني أو التحتاني فلا، لأنّ أفراد كلّ منهم
- (1) كما في المقام، فإنّه لا مانع ذاتا من بقاء العموم الأفرادي والأزماني كليهما على ظاهرهما لو لا العلمالإجمالي. م ح ـ ى.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 213.
- (3) «إمّا» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
ج6
تباين أفراد الآخر، فلا معنى للأقلّ والأكثر(1).
إنتهى كلامه في الوجه الثاني وجوابه أيضاً.
بيان مجرى الاُصول اللفظيّة
الثالث: قوله: والتحقيق عدم جريان إلخ.
وحاصله: أنّ أصالة العموم الأفرادي تجري، بخلاف أصالة العموم أوالإطلاق الزمانيّين، وذلك لأنّ الاُصول اللفظيّة إنّما تجري فيما إذا شك في المراد،لا في كيفيّة الاستعمال، فإذا قال: «أكرم العلماء» وشكّ في وجوب إكرام زيدالعالم قطعا يتمسّك بأصالة العموم، وأمّا إذا علم أنّه لا يجب إكرام زيد إمّلكونه غير عالم، فخروجه عن العلماء بنحو التخصّص، وإمّا لكونه فاسقا معالعلم بكونه عالما، فخروجه بنحو التخصيص، فلا مجال للتمسّك بأصالةالعموم لإثبات كونه غير عالم، فالاُصول اللفظيّة التي هي اُصول عقلائيّة لتجري عندهم إلاّ فيما إذا ترتّب عليها أثر عملي.
إذا عرفت ذلك فنقول في المقام: لا يترتّب على أصالة العموم أو الإطلاقالزمانيّين أثر عملي، لأنّ جريانهما لإدخال يوم الجمعة الذي علم خروجه غيرمعقول، ولو اُجريا لإثبات لازمهما وهو ورود التخصيص على العمومالأفرادي(2) فهو باطل، لأنّ إثبات هذا اللازم ليس أثرا عمليّا لهما، بخلافأصالة العموم الأفرادي، فإنّ أثرها هو وجوب إكرام زيد يوم السبت وم
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 213.
- (2) توضيحه: أنّ يوم الجمعة مثلاً الذي علم خروجه إن كان خروجه تخصيصا للعموم الأفرادي، وهو علىتقدير كون زيد غير واجب الإكرام في يوم السبت وما بعده أيضاً، فالعموم الأزماني أو الإطلاق يكونباقيا على ظاهره، وإن كان خروج زيد في يوم الجمعة بنحو كان واجب الإكرام في يوم السبت وما بعدهكان تخصيصا للعموم الأزماني أو تقييدا للإطلاق، فجريان الأصل فيهما يستلزم ورود التخصيص علىالعموم الأفرادي. م ح ـ ى.