ج6
وليعلم أنّ أخذ الموضوع من العقل لا يكون دائما مضيّقا لدائرةالاستصحاب، ولا أخذه من العرف موسّعا لها دائما، بل قد يكون بالعكس،فإنّ الوجوب والندب مثلاً متباينان عند العرف، لكنّ العقل يرى أنّهما وصفانلشيء واحد، فإنّ الوجوب مرتبة شديدة من الطلب، والندب مرتبة ضعيفةمنه، فكلاهما طلب، والاختلاف في الشدّة والضعف، كالسواد الشديدوالضعيف.
هذا تمام الكلام في هذا البحث.
(صفحه340)
ج6
في ملاك تقدّم الأمارات على الاستصحاب
الأمر الثاني: في ملاك تقدّم الأمارات على الاستصحاب
لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده،سواء كانت مخالفةً له أو موافقة.
وإنّما الكلام في وجه تقدّمها عليه وأنّه من باب الورود أو الحكومة أوالجمع العرفي بين دليل اعتبارها وبين دليل اعتباره؟
نظريّة المحقّق صاحب الكفاية في المسألة
هذه ثلاثة أوجه ذكرها المحقّق الخراساني رحمهالله بحسب مقام الثبوت، ثمّ اختارالأوّل ـ أعني الورود ـ بحسب مقام الإثبات، حيث قال ما حاصله: والتحقيقأنّه للورود، فإنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافهليس من نقض اليقين بالشكّ، بل باليقين، فإذا قامت رواية معتبرة على عدموجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فلا مجال للتمسّك بقوله: «لا تنقضاليقين بالشكّ» لأنّه لا مورد له هاهنا مع قوله: «صدّق العادل» الشامل للخبرالقائم على عدم وجوب صلاة الجمعة.
وأمّا إذا كانت الأمارة على وفقه فلأنّ العمل على طبق الحالة السابقة يكونمستندا إليها، لا إلى الاستصحاب لئلاّ يلزم نقض اليقين بالشكّ.
إن قلت: لِمَ لا يؤخذ بدليله ويجب الأخذ بدليلها؟
(صفحه342)
قلت: ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذبدليله، فإنّ تقديم دليل الاستصحاب على دليل الأمارة لا يتصوّر إلاّ علىوجه التخصيص، والتخصيص هاهنا يستلزم الدور، فإنّ تخصيص قوله:«صدّق العادل» بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» متوقّف على حجّيّةالاستصحاب في مورد الأمارات، وحجّيّته في موردها متوقّفة على تخصيص«صدّق العادل» بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ».
وأمّا الحكومة: فلا أصل لها هاهنا، فإنّها عبارة عن ورود دليل بلحاظدليل آخر لتفسيره وشرحه والنظارة عليه، مثل قوله: «إذا شككت بينالثلاث والأربع فابن على الأربع»(1) وقوله: «لا شكّ لكثير الشكّ»(2) فإنّ هذالدليل الثاني ورد بلحاظ الدليل الأوّل، وغرضه نفي أحكام الشكّ التي دلّعليها الدليل الأوّل عن شكّ كثير الشكّ بلسان نفي موضوعه، ولو لا الدليلالأوّل لا مجال لورود الدليل الثاني أصلاً.
والمقام ليس كذلك، فإنّه لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليلالاستصحاب ولا بالعكس، فإنّ كلاًّ منهما بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل،ويطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة.
وظاهر القائل بالحكومة كون دليلها حاكما على دليله حتّى في صورةالموافقة، مع أنّه لا يمكن الالتزام به، لأنّ الحكومة إمّا أن تكون بنحو تضييقالدليل الحاكم لدائرة الدليل المحكوم أو بنحو توسعته لها، والمقام ليس كذلك،فإنّ مفاد الخبر الدالّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً عين مفاد استصحابه،
- (1) ورد مضمونه في وسائل الشيعة 8 : 216 ـ 218، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الخلل الواقعفي الصلاة.
- (2) ورد حكم كثير الشكّ في وسائل الشيعة 8 : 227 ـ 229، كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الخلل الواقعفي الصلاة.
ج6
فكيف يكون قوله: «صدّق العادل» حاكما على قوله: «لا تنقض اليقينبالشكّ»؟!
وأمّا التوفيق العرفي فإن اُريد منه ما ذكرناه ـ أعني ورود دليلها على دليله فلا بحث، إذ الاختلاف إنّما يكون في اللفظ والتعبير فقط، وإن اُريد بهالتخصيص، ففيه: أنّه كما عرفت لا يبقى المورد لدليل الاستصحاب مع دليلالأمارة، لا أنّ كلاًّ منهما يشمله حتّى يكون تقديم الثاني تخصيصا للأوّل(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
ملاك تقدّم أحد الدليلين على الآخر
ولابدّ قبل بيان ما هو الحقّ في المسألة من ذكر مقدّمة إجمالاً في بيان ميمكن أن يكون ملاكا لتقدّم أحد الدليلين على الآخر، وسيجيء تفصيلالبحث فيه في مبحث التعادل والترجيح إنشاء اللّه.
فنقول: إنّ كلّ دليلين لا يخلو من إحدى حالات ثلاث:
الاُولى: أن لا يتعرّض أحدهما بمدلوله لما يتعرّضه الآخر، أي لا ربط بينهمأصلاً، مثل قوله: «يجب إكرام العلماء» و«يحرم إكرام الجهّال» فلا إشكال فيوجوب العمل بكليهما.
الثانية: أن يكون كلّ منهما متعرّضا لما يتعرّضه الآخر، ولكن لا تقدّم بينهمبوجه من الوجوه، مثل أن يقول: «يجب إكرام العلماء» و«يحرم إكرام العلماء»فإنّ كلاًّ منهما يتعرّض لإكرام العلماء، لكنّ أحدهما يوجبه والآخر يحرّمه، ولوجه لتقديم أحدهما على الآخر، فيقع التعارض بينهما.
الثالثة: أن يكون بينهما ربط ويكون أحدهما مقدّما على الآخر.