(صفحه360)
للتكليف المعلوم بالإجمال، فإنّا إذا استصحبنا طهارة كلا الإنائين خالفنالتكليف بالاجتناب عن النجس.
الثالث: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ وجهه أنّه لا يمكن جرياندليل الاستصحاب في أطراف العلم، لأنّ من(1) هو عالم بأنّ المكلّف قطعبارتفاع الحالة السابقة في أحد طرفيه ويكون قطعه حجّة ذاتا كيف يمكن لهأن يحكم ببقائها في كليهما تعبّدا؟!
وهكذا سائر الاُصول.
وما اختاره الشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله يتّحدان نتيجةً، وهي أنّ الاُصولـ ومنها الاستصحاب ـ لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا، سواء استلزمجريانها فيها مخالفة عمليّة لتكليف معلوم بالإجمال، كالمثال السابق، أم لا،كاستصحاب نجاسة إنائين عند العلم بصيرورة أحدهما طاهرا، لكنّ الشيخذهب إليه لأجل مقام الإثبات ودلالة الدليل، والمحقّق النائيني لأجل مقامالثبوت.
بخلاف ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله ، فإنّه لا يمنع جريان الاُصول فيأطراف العلم إلاّ فيما إذا استلزم المخالفة العمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال.
محلّ النزاع في المقام
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ البحث هاهنا إنّما هو في تعارض الاستصحابينبعد الفراغ عن جريانهما في أنفسهما، لا في جريانهما وعدمه في أطراف العلم.
فعلى هذا لا مجال لهذا البحث على ما ذهب إليه الشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم، لقصور دلالة دليله، أو لعدم
- (1) وهو الشارع المقدّس. م ح ـ ى.
ج6
إمكانه، وأمّا بناءً على جريانه فيها ذاتا وكون المحذور هو المخالفة العمليّة ـ كمذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله ـ فلا مجال لهذا البحث أيضاً لو لم يكن جريانهممستلزما لها.
فينحصر النزاع في تعارض الاستصحابين بعد العلم الإجمالي بانتقاضالحالة السابقة في أحدهما فيما إذا كان جريانهما مسلتزما للمخالفة العمليّة بعدالفراغ من جريانهما ذاتا، فإذا كان كذلك فلابدّ من البحث في حكمه.
فما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام من جريان الاستصحاب في أطرافالعلم لو لم يستلزم المخالفة العمليّة وعدم جريانه فيها لو استلزمها(1) فهومشخّص لموضوع البحث في تعارض الاستصحابين، وأمّا حكمه الذي يكونالنزاع هاهنا فيه فلم يتعرّض له أصلاً.
فلابدّ هاهنا من البحث في أنّ الاستصحابين إذا تعارضا في أطراف العلملأجل المخالفة العمليّة فهل القاعدة تقتضي تساقطهما أو التخيير بينهما أوترجيح أحدهما لو كان له مزيّة؟
تصوير تعارض الاستصحابين في غير موارد العلم الإجمالي
ويمكن تصوير مورد آخر لمحلّ النزاع غير أطراف العلم الإجمالي، وهو مإذا دلّ دليل على عدم الجمع بين المستصحبين من دون أن يكون الشكّ في بقاءأحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر ومن دون أن يعلم بانتقاض الحالة السابقةفي أحدهما إجمالاً.
مثاله: أن يكون لنا ماء قليل نجس بالملاقاة فتمّمناه كرّا بماء طاهر،فشككنا في بقاء طهارة المتمّم ـ بالكسر ـ وفي بقاء نجاسة المتمَّم ـ بالفتح
(صفحه362)
فيتعارض الاستصحابان لأجل الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يكون له إلحكم واحد، فلا مجال للجمع بين استصحاب طهارة المتمّم ـ بالكسر ونجاسة المتمّم ـ بالفتح ـ بعد صيرورتهما ماءً واحداً، ولولا الإجماع لما تعارضا،لعدم العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، ولا يكون الشكّ فيأحدهما مسبّبا عن الآخر أيضاً.
وفي هذا المورد يقع التعارض بين الاستصحابين عند الكلّ.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ محلّ النزاع موردان: أحدهما: ما إذا كانجريانهما مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة بعد الفراغ عن جريانهما ذاتا،وهذا مبنيّ على ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في وجه عدم جريان الاُصولفي أطراف العلم، ثانيهما: قيام دليل من الخارج على عدم جواز الجمع بينالاستصحابين، ولا فرق في هذا بين مذهب المحقّق الخراساني رحمهالله وبين مذهبالشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله ، فإنّه من مصاديق تعارض الاستصحابين عندالجميع.
حكم الاستصحابين المتعارضين
إذا عرفت محلّ النزاع فاعلم أنّ حكمه دائر ثبوتا بين الترجيح والتساقطوالتخيير، ولا رابع لها.
أمّا الترجيح: فلا طريق إليه هاهنا كما قاله سيّدنا الاُستاذ الأعظمالإمام«مدّ ظلّه»(1)؛ لأنّه يعتبر في الترجيح أن لا يكون المرجِّح حاكما على ذيالترجيح ولا بالعكس، ويعتبر أيضاً اتّحادهما لسانا، فعلى هذا لا يجوز ترجيحأحد الاستصحابين بموافقة أمارة معتبرة له ولا بموافقة أصل من الاُصول
- (1) راجع الرسائل، مبحث الاستصحاب: 252.
ج6
العمليّة الاُخر ولا بموافقة ظنّ غير معتبر، لفقد الشرط الأوّل في الأوّلين، فإنّالأمارة واردة على الاستصحاب وهو وارد على الاُصول العمليّة الاُخر كمعرفت آنفا، ولفقد الشرط الثاني في الأخير، فإنّ الاستصحاب يفيد حكمظاهريّا عند الشكّ في الحكم الواقعي، بخلاف الظنّ، فإنّه حاكٍ عن الواقعوطريق إليه، فإذا تمّمنا الماء القليل المتنجّس كرّا بماء طاهر فلو قام دليلاجتهادي على نجاسة ما كان منه نجسا لا يمكن ترجيح استصحاب النجاسةبه، لكونه واردا على الاستصحاب ورافعا لموضوعه، فلا يبقى لنا استصحابحتّى يرجّح به، ولا يمكن أيضاً ترجيح استصحاب طهارة المتمّم ـ بالكسر بأصالة الطهارة، لأنّ الاستصحاب وارد عليها كما عرفت، فلا تبقى هي معه،ولا يمكن أيضاً ترجيح أحدهما بظنّ غير معتبر، لاختلاف لسانهما، فإنّالاستصحاب على التحقيق أصل ناظر إلى الظاهر، والظنّ طريق إلى الواقعوحاكٍ عنه، فلم يتّحد مضمونهما حتّى يترجّح أحدهما بالآخر.
نعم، لو كان الاستصحاب أمارة أو أصلاً محرزا لجاز ترجيحه بالدليلالظنّي غير المعتبر، لوحدة مضمونهما، لكنّه خلاف التحقيق.
وبالجملة: ليس لنا شيء يصلح لأن يكون مرجّحا لأحد الاستصحابينالمتعارضين.
الحقّ هو تساقط الاستصحابين المتعارضين
وأمّا وجه تساقطهما فهو أنّ أخبار الباب تشمل كلاًّ منهما على سبيلالتعيين، لا الأعمّ منه ومن التخيير، أي نسبة الأخبار إلى جميع أفرادها فيجميع حالاتها على السواء، ولا تشمل كلّ واحد منها مرّات عديدة: مرّةتعيينا، وهو إذا لم يعارض غيره أصلاً، واُخرى تخييرا بين اثنين إذا كانت
(صفحه364)
المعارضة بين استصحابين، وثالثةً بين ثلاثة إذا كانت بين ثلاثة استصحابات،وهكذا، وحينئذٍ لا يمكن الأخذ بكلّ واحد من الاستصحابين المتعارضين،للزوم المخالفة العمليّة القطعيّة أو لزوم المخالفة مع الدليل الخارجي الدالّ علىعدم الجمع بينهما، ولا يمكن الأخذ أيضاً بواحد منهما معيّنا، لعدم الترجيح،ولا مخيّرا، لعدم شمول الأخبار للأفراد بنحو التخيير، فلابدّ من الالتزامبسقوطهما.
نقد ما استدلّ به القائل بالتخيير في الاستصحابين المتعارضين
والقائل بالتخيير تمسّك بوجهين:
أحدهما: أنّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطابا تخييريّا،لوجود الملاك التامّ في كليهما، كما في باب التزاحم، فقوله: «أنقذا الغريق» يشملكلّ غريق على سبيل التعيين، وإذا كان لنا غريقان ولم نتمكّن من إنقاذ كليهمسقط الخطاب التعييني ـ أعني قوله: «أنقذ الغريق» ـ لكنّ العقل يستكشف أنّللشارع هاهنا خطابا تخييريّا، لتحقّق الملاك في كلّ منهما، والمقام أيضاً كذلك،لأنّ التعارض وإن كان يوجب سقوط الخطاب التعييني بحرمة نقض اليقينبالشكّ، إلاّ أنّ العقل يستكشف أنّ للشارع خطابا تخييريّا، لوجود الملاك فيكلّ منهما، فلابدّ من إجراء الاستصحاب في واحد منهما تخييرا.
وفيه: أنّ قياس المقام بباب التزاحم مع الفارق، فإنّ كشف الخطابالتخييري في مثل «أنقذ الغريق» ممّا لا مانع منه، لوجود الملاك في كلّ منالطرفين، دون مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» وذلك لأنّ الملاك في وجوبإنقاذ الغريق هو حفظ النفس المحترمة، وهو موجود بالنسبة إلى كلّ واحد منالغريقين وإن لم نقدر على إنقاذ كليهما، بخلاف المقام، فإنّ حرمة نقض اليقين