(صفحه370)
العكس، فإنّ قاعدة التجاوز والفراغ مختصّة بالشبهات الموضوعيّة في بعضالعبادات، كالصلاة والصوم ونحوهما، وأصالة الصحّة مختصّة بالشبهاتالموضوعيّة في باب المعاملات، فيختصّ الاستصحاب بجميع الشبهات الحكميّةوكثير من الشبهات الموضوعيّة، فلا محذور في تقدّم هذه القواعد علىالاستصحاب، بخلاف العكس.
تعارض الاستصحاب مع قاعدة القرعة
مجرى قاعدة القرعة
وأمّا القرعة فهي لكلّ أمر مشكل ومجهول ومشتبه على ما في أخبارها(1)،وهذه التعابير بظاهرها تعمّ جميع الشبهات، سواء كانت حكميّة أو موضوعيّة،فإنّ كلّها من مصاديق المشكل والمشتبه والمجهول، وقد اشتهر في ألسنةالمتأخّرين أنّ عمومات القرعة قد وردت عليها تخصيصات كثيرة بالغة حدّالاستهجان، لعدم جواز القرعة في الشبهات الحكميّة ولا في موارد الاُصولالعمليّة من الشبهات الموضوعيّة ولا في موارد القواعد الفقهيّة(2)، ولا ريب فيأنّ تخصيصها بهذه الموارد تخصيص للأكثر، وهو مستهجن، فيستكشف منهأنّها(3) كانت محفوفةً بقرائن وقيود لم تصل إلينا، فلا يجوز التمسّك بها إلاّ فيموارد عمل الأصحاب على طبقها.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ استلزام هذا المعنى للتخصيصات الكثيرة الموجبة
- (1) راجع وسائل الشيعة 27: 257، كتاب القضاء، الباب 13 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى،وبحار الأنوار 88 : 234، كتاب الصلاة، باب الاستخارة بالرقاع، ذيل الحديث 7، وعوالي اللئالي 2: 112 و285، و3: 512.
- (2) ولا في مورد إحلاف المنكر إذا لم يكن للمدّعي بيّنة. منه مدّ ظلّه.
- (3) أي عمومات القرعة. م ح ـ ى.
ج6
للاستهجان يرشدنا إلى معنى آخر في عمومات القرعة، وهو ـ على ما أشارإليه المحقّق الخراساني رحمهالله ـ أنّها لكلّ أمر مشكل مشتبه مجهول بقول مطلق، لفي الجملة، فتختصّ بموارد كان حكمها الواقعي والظاهري مجهولاً(1)، فلا تعمّالشبهات الحكميّة أصلاً، إذ ما من شبهة حكميّة إلاّ وفي موردها أصل منالاُصول العمليّة، ولا موارد الاُصول العمليّة من الشبهات الموضوعيّة، ولموارد القواعد الفقهيّة، وهو واضح(2).
هذا توضيح ما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمهالله .
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في مجرى قاعدة القرعة
وقال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»: إنّ التتبّع في أخبار القرعة يوجبالقطع بأنّ مصبّ القرعة في الشريعة ليس إلاّ ما لدى العقلاء، وليس بنائهمعلى العمل بها إلاّ في موارد تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم، سواءكان لها واقع معلوم عند اللّه، كتعيين مالك المال الذي ليس في يد واحد منالمتخاصمين بالقرعة، أو لا، كتقسيم الإرث والأموال المشتركة بها.
نعم، يبقى مورد واحد في أخبار القرعة ليس من باب تزاحم الحقوق، وهوقضيّة اشتباه الشاة الموطوئة في قطيع، فيقسّم القطيع نصفين ويقرع بينهما، ثمّيقسّم النصف الذي أصابته القرعة نصفين ويقرع بينهما ويكرّر ذلك حتّى يبقىواحدة أصابتها القرعة الأخيرة، فتذبح وتحرق(3).
فهذا لابدّ من الالتزام فيه بالتعبّد في المورد الخاصّ لا يتجاوز منه إلى
- (1) مثل أن يكون مال مردّدا بين زيد وعمرو من دون ثبوت يد أحدهما عليه ولا يكون لواحد منهما بيّنة أوتقوم البيّنة لكليهما. منه مدّ ظلّه.
- (3) الاختصاص: 96، والمناقب 4: 404.
(صفحه372)
غيره.
ويمكن أن يُقال: إنّ التعبّد في هذا المورد أيضاً إنّما يكون لأجل تزاحمحقوق الشياة لنجاة البقيّة، كما أشار إليه في النصّ بقوله: «فإن لم يعرفها قسّمهنصفين أبدا حتّى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها» فالتعبيربنجاة سائرها لعلّه إشارة إلى أنّ هذا المورد أيضاً من قبيل تزاحم حقوقالشياة في بقاء حياتها، وربما يحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوقأرباب الغنم، فإنّ قطيع الأغنام يكون من أرباب متفرّقة غالبا، فيتزاحمحقوقهم(1).
هذا حاصل كلام سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه».
تقدّم الاستصحاب على قاعدة القرعة
إذا تأمّلت هذا فاتّضح لك أنّ الاستصحاب مقدّم على القرعة على جميعهذه المباني، إلاّ أنّ وجهه على الأوّل هو التخصيص، وعلى الثاني الذي أفادهالمحقّق الخراساني رحمهالله هو الورود، وهكذا على ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه»؛فإنّ الاستصحاب يرفع تزاحم الحقوق، فيكون دليله واردا على دليل القرعة،وسيّدنا الاُستاذ وإن عبّر بحكومة دليله على دليلها، إلاّ أنّه مبنيّ على ما ذهبإليه من إرجاع الورود إلى الحكومة.
اضطراب كلام صاحب الكفاية في نسبة الاستصحاب مع القرعة
ثمّ إنّ كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام مضطرب(2)، فإنّه قال ابتداءً
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 347.
- (2) راجع كفاية الاُصول: 493 ـ 494، كي يتّضح لك اضطراب كلامه. م ح ـ ى.
ج6
بأخصّيّة دليل الاستصحاب من دليل القرعة ـ وهذا هو المبنى الأوّل الذيذكرناه ـ سيّما أنّه قال بأنّ الإجماع قام على خروج الشبهات الحكميّة عندليلها، فإنّه صريح في شموله لها مع قطع النظر عن الإجماع، ثمّ انتقل إلى منقلناه عنه آنفا، وهو أنّ الظاهر من دليل القرعة اختصاصه بالمشكوك حكمهالواقعي والظاهري كلاهما، وهذا يقتضي خروج الشبهات الحكميّة ومواردالاُصول العمليّة والقواعد الفقهيّة عن موضوع دليلها، ثمّ انتقل إلى أنّ بين دليلالاستصحاب ودليل القرعة عموما من وجه بقوله: «فلا بأس برفع اليد عندليلها عند دوران الأمر بينه وبين رفع اليد عن دليله، لوَهن عمومها وقوّةعمومه» فإنّه ظاهر في أنّ بينهما عموما من وجه، إلاّ أنّا نتمسّك في موردالاجتماع بدليل الاستصحاب، لقوّة عمومه ووهن عموم دليل القرعة.
وأنت ترى أنّ بين هذه الفقرات الثلاث من كلامه منافاةً واضحة.
هذا تمام الكلام في الاستصحاب، وبه تمّ مباحث الاُصول العمليّة.
والحمدللّه ربّ العالمين.
(صفحه374)
المقصد الثامن
في تعارض الأدلّة