(صفحه402)
فلا تتوقّف على شيء، بخلاف المطلق، فإنّ دلالته على الإطلاق والشمولتتوقّف على مقدّمات الحكمة ومنها عدم البيان على التقييد، والعامّ يصلح لأنيكون بيانا، فالتقييد مقدّم على التخصيص عند دوران الأمر بينهما.
نقد ما أفاده الشيخ والنائيني رحمهماالله في المقام
وفيه: أنّ جريان أصالة العموم أيضاً متوقّف على عدم البيان علىالتخصيص إذا كان المتكلّم في مقام التشريع والتقنين، لما جرى عليه بناءالمقنّنين من جعل القوانين بنحو الكلّي ثمّ بيان مخصّصاتها منفصلةً، فأصالةالعموم أيضاً معلّقة على عدم البيان على التخصيص، والمطلق يصلح لأن يكونبيانا عليه، فأين الأظهريّة والظاهريّة في المقام؟!
الحقّ في وجه تقدّم العامّ على المطلق
نعم، لنا طريق آخر لإثبات تقدّم العموم على الإطلاق، وهو أنّه ليس لنهاهنا دليلان لفظيّان، بل دليل لفظي واحد، وهو العامّ(1)، وأمّا المطلق فلا يدلّبلفظه على الإطلاق كما سيظهر.
توضيح ذلك يحتاج إلى بيان ما يستفاد منه العموم والإطلاق ابتداءً، ثمّالمقايسة بينهما، فنقول:
إذا قال: «أكرم كلّ عالم» فلفظ «عالم» يدلّ على الطبيعة فقط، والعموممستفاد من لفظة «كلّ» فإنّها تدلّ على تكثّر مدخولها، وهو «العالم» وحيث إنّالطبيعة لا يعقل أن تكون متكثّرة فلا محالة يكون التكثّر بلحاظ أفرادها،
- (1) وعلى هذا فلا مجال للقول بالأظهريّة والظاهريّة، لأنّ الظهور من أوصاف الدلالة، والدلالة من أوصافالدليل اللفظي، فلا يمكن القول بأظهريّة أحد الدليلين على الآخر إلاّ إذا كان الدليلان لفظيّين. منه مدّ ظلّه.
ج6
لكن بما هم موصوفون بهذا الوصف، فكأنّه قال: «أكرم زيدا من حيث هوعالم» و«أكرم عمرا من حيث هو عالم» وهكذا.
فالعموم يستفاد من لفظة «كلّ» فهو دليل لفظي.
فإذا ورد عقيبه: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» كان التعارض بين الدليليناللفظيّين، لكن تخصيص العمومات حيث كان متعارفا في مقام التقنين كانالتعارض بينهما بدويّا زائلاً بالتأمّل والدقّة.
هذا بالنسبة إلى العموم.
وأمّا المطلق فدلالته على الإطلاق إنّما تكون بتوسّط مقدّمات الحكمة،فإذا قال: «أعتق الرقبة» فلا يدلّ بلفظه على أزيد من وجوب عتقطبيعة الرقبة، وأمّا أنّه لا فرق بين الرقبة المؤمنة والكافرة فهو مستفادمن حكم العقل بأنّ المولى الحكيم المريد المختار الذي هو في مقام بيان تماممراده لو أراد الرقبة المؤمنة لبيّنه لا محالة، فلا بدّ من أن يكون مرادهطبيعة الرقبة من دون دخل الإيمان في مراده، وهذا هو الذي يعبّر عنهبـ «مقدّمات الحكمة».
فلفظة «الرقبة» لا تكون ناظرةً إلى الأفراد أصلاً، فإنّ ماهيّة «الإنسان»وهي الحيوان الناطق غير أفراده.
نعم، هي متّحدة مع الأفراد ومنطبقة عليها، لكن مقام الاتّحاد والانطباقغير مقام الدلالة، فلا يمكن القول بدلالة قوله: «أعتق الرقبة» على عدم الفرقبين الفرد المؤمن منها وبين الكافر.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ احتجاج العبد في المطلق لمّا كان متقوّما بجعلالطبيعة بنفسها موضوعة وعدم ذكر قيد لها يكون أمر هذا الاحتجاج إلىزمان ورود القيد، فإذا ورد ينتهي احتجاجه ويرتفع موضوعه، فتقدّم العامّ
(صفحه404)
على المطلق في مورد الاجتماع إنّما هو لكون العامّ غاية لاحتجاج العقلاءبالإطلاق، لكونه بيانا للقيد، لأنّ البيان لا يلزم أن يكون بنحو الخصوص،فكما أنّه إذا قال: «أعتق الرقبة» ثمّ قال: «لا تعتق الرقبة الكافرة» يكون الثانيقيدا للأوّل، فكذلك إذا قال: «لا تكرم الفاسق» ثمّ قال: «أكرم كلّ عالم» لأنّهـ حيث كان لفظة «كلّ» دالّة على التكثير ـ يشمل جميع أفراد العالم، سواء كانوعدولاً أم فسّاقا، فهو يكون في مورد الاجتماع بمنزلة أن يقال: «أكرم العلماءالفسّاق».
وبالجملة: حيث إنّ الإطلاق لا يكون دليلاً لفظيّا، بل هو مستفاد منمقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان على القيد، يكون العامّ الذي هو دليللفظي صالح لتقييده مقدّما عليه في مادّة الاجتماع.
فجعلهما من قبيل الأظهر والظاهر ـ كما اعتقده الشيخ والمحقّق النائيني لا يتمّ، لأنّ الظهور من أوصاف الدلالة اللفظيّة، فلا يتقوّم بالإطلاق الذيليس بدليل لفظي.
وممّا ذكرنا يتّضح أمران:
تقدّم المفهوم اللفظي على الإطلاقي
أحدهما: أنّه لوقلنابثبوتالمفهوم لبعضالجمل ووقعالتعارض بينمفهومين،فإن كان ثبوت المفهوم في أحدهما بالإطلاق وفي الآخر بالدلالة اللفظيّة(1)،يقدّم المفهوم اللفظي على الإطلاقي، لعدم الفرق فيما ذكرنا من تقييد الإطلاقبالدليل اللفظي بين كونهما منطوقي الدليلين أو مفهوميهما.
- (1) كما قيل في القضيّة الشرطيّة: إنّها تدلّ على المفهوم بلفظها، لأنّ أداة الشرط وضعت لكون الشرط علّةمنحصرة للجزاء، ولا يبعد هذا في مفهوم الحصر، لأنّ أداة الحصر ـ كـ «إنّما» ونحوها ـ لا يبعد أن تكونموضوعة لإفادة الحصر. منه مدّ ظلّه.
ج6
عدم دلالة المطلق على الشمول
الثاني: أنّه ليس الإطلاق عندنا على قسمين: شمولي وبدلي، لعدم وجودلفظ دالّ على التكثّر فيه كما في العموم، فلا يدلّ على الشمول أصلاً، لكن لوفرضنا كونه على قسمين فلا يكون الإطلاق الشمولي مقدّما على البدلي عندالتعارض في مورد الاجتماع، فلو قال: «أعتق الرقبة» ثمّ قال: «لا خير فيكافر» استقرّ التعارض بينهما في الرقبة الكافرة من دون أن يقيّد أحدهمبالآخر، وذلك لأنّ الطريق إلى الإطلاق في كليهما واحد، وهو تماميّة مقدّماتالحكمة، وإن كان نتيجتها في أحدهما الشمول وفي الآخر البدليّة، فليس المطلقالشمولي بلفظه دالاًّ على الإطلاق حتّى يقدّم على الإطلاق البدلي.
دوران الأمر بين التخصيص والنسخ
ومنها(1): ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ.
وقبل الورود في البحث لابدّ من ذكر إشكال هاهنا وجوابه:
أمّا الإشكال: فهو أنّه يشكل تخصيص الكتاب والسنّة النبويّةبالخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام (2) فإنّها صادرة بعد حضور وقت العملبعموماتها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، فكيف حمل الفقهاء هذهالأخبار على التخصيص؟!
نظريّة الشيخ والمحقّق النائيني والخراساني في دفع الإشكال
- (1) أي من الموارد التي قيل بكونها من قبيل الأظهر والظاهر. م ح ـ ى.
- (2) وكذا تخصيص كلام كلّ إمام بكلام من بعده من الأئمّة عليهمالسلام . م ح ـ ى.
(صفحه406)
وأمّا دفعه: فذكر الشيخ فيه ثلاثة أوجه(1):
أحدها: أنّ هذه الخصوصات تكون ناسخة لا مخصّصة.
ويلزمه جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد الصادر عن الإمام عليهالسلام .
ثمّ استشكل نفسه في هذا الوجه بأنّ كثرة التخصيص بلغت إلى حدّ قيل: ممن عامّ إلاّ وقد خصّ، فكيف يحمل هذه الخصوصات الكثيرة الصادرةعنهم عليهمالسلام على النسخ؟!
الثاني: أنّ هذه الأخبار كاشفة عن أنّ العمومات الصادرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله كانت متّصلة بمخصّصاتها، لكنّ المخصّصات اختفت علينا، فحملها علىالتخصيص لا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
واستشكل نفسه في هذا الوجه أيضاً ببعد نقل الرواة العمومات من دونمخصّصاتها التي كانت متّصلة بها مع كثرة الدواعي إلى ضبط القرائنوالمخصّصات المتّصلة واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها، فمن المستحيل عادةً أنتكون مخصّصات متّصلة بعدد المخصّصات المنفصلة وقد خفيت كلّها علينا.
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله تلقّى هذا الوجه بالقبول(2)، ووجّهه بأنّ كثير
- (1) راجع فرائد الاُصول 4: 94.
- (2) هذا على ما في فوائد الاُصول، لكنّه رحمهالله ناقش في هذا الوجه واختار طريقا آخر لدفع الإشكال في أجودالتقريرات حيث قال:
والانصاف أنّ هذه الدعوى وإن كانت مقبولة في الجملة، نظرا إلى وجود جملة من تلك المخصّصات فيالكتب المرويّة بطرق العامّة، وجملة من أسانيدها معتبرة ومنتهية إلى خيار الصحابة«رضي اللّه عنهم»كعبادة بن صامت وغيره، إلاّ أنّ دعوى وجود كلّ مخصّص صادر عن الأئمّة المتأخّرين«صلوات اللّهعليهم أجمعين» في زمان صدور العمومات السابقة لا تخلو عن الجزاف كما هو ظاهر.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان قبيحا في حدّ ذاته، إلاّ أنّه لا مانعمن عروض عنوان آخر عليه موجب لارتفاع قبحه، بل لاتّصافه بالحسن، نظير بقيّة العناوين القبيحة لو لعروض عنوان آخر عليها، فإذا فرض اقتضاء الحكمة من تقيّة أو غيرها تأخير البيان فلابدّ من التأخير،وإلاّ لزم العمل على خلاف الحكمة، فالإشكال المذكور إنّما نشأ من تخيّل أنّ القبح في المقام نظير القبحالثابت للظلم الغير الممكن تخلّفه عنه، مع أنّه من الضروري أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو تابع لتحقّقملاكه، فإذا اقتضت الحكمة تأخير البيان لمصلحة أقوى فلا مناص عن التأخير، حفظا لتلك المصلحة،إنتهى كلامه رحمهالله . أجود التقريرات 4: 299. م ح ـ ى.