ج6
عدم دلالة المطلق على الشمول
الثاني: أنّه ليس الإطلاق عندنا على قسمين: شمولي وبدلي، لعدم وجودلفظ دالّ على التكثّر فيه كما في العموم، فلا يدلّ على الشمول أصلاً، لكن لوفرضنا كونه على قسمين فلا يكون الإطلاق الشمولي مقدّما على البدلي عندالتعارض في مورد الاجتماع، فلو قال: «أعتق الرقبة» ثمّ قال: «لا خير فيكافر» استقرّ التعارض بينهما في الرقبة الكافرة من دون أن يقيّد أحدهمبالآخر، وذلك لأنّ الطريق إلى الإطلاق في كليهما واحد، وهو تماميّة مقدّماتالحكمة، وإن كان نتيجتها في أحدهما الشمول وفي الآخر البدليّة، فليس المطلقالشمولي بلفظه دالاًّ على الإطلاق حتّى يقدّم على الإطلاق البدلي.
دوران الأمر بين التخصيص والنسخ
ومنها(1): ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ.
وقبل الورود في البحث لابدّ من ذكر إشكال هاهنا وجوابه:
أمّا الإشكال: فهو أنّه يشكل تخصيص الكتاب والسنّة النبويّةبالخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام (2) فإنّها صادرة بعد حضور وقت العملبعموماتها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح، فكيف حمل الفقهاء هذهالأخبار على التخصيص؟!
نظريّة الشيخ والمحقّق النائيني والخراساني في دفع الإشكال
- (1) أي من الموارد التي قيل بكونها من قبيل الأظهر والظاهر. م ح ـ ى.
- (2) وكذا تخصيص كلام كلّ إمام بكلام من بعده من الأئمّة عليهمالسلام . م ح ـ ى.
(صفحه406)
وأمّا دفعه: فذكر الشيخ فيه ثلاثة أوجه(1):
أحدها: أنّ هذه الخصوصات تكون ناسخة لا مخصّصة.
ويلزمه جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد الصادر عن الإمام عليهالسلام .
ثمّ استشكل نفسه في هذا الوجه بأنّ كثرة التخصيص بلغت إلى حدّ قيل: ممن عامّ إلاّ وقد خصّ، فكيف يحمل هذه الخصوصات الكثيرة الصادرةعنهم عليهمالسلام على النسخ؟!
الثاني: أنّ هذه الأخبار كاشفة عن أنّ العمومات الصادرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله كانت متّصلة بمخصّصاتها، لكنّ المخصّصات اختفت علينا، فحملها علىالتخصيص لا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.
واستشكل نفسه في هذا الوجه أيضاً ببعد نقل الرواة العمومات من دونمخصّصاتها التي كانت متّصلة بها مع كثرة الدواعي إلى ضبط القرائنوالمخصّصات المتّصلة واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها، فمن المستحيل عادةً أنتكون مخصّصات متّصلة بعدد المخصّصات المنفصلة وقد خفيت كلّها علينا.
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله تلقّى هذا الوجه بالقبول(2)، ووجّهه بأنّ كثير
- (1) راجع فرائد الاُصول 4: 94.
- (2) هذا على ما في فوائد الاُصول، لكنّه رحمهالله ناقش في هذا الوجه واختار طريقا آخر لدفع الإشكال في أجودالتقريرات حيث قال:
والانصاف أنّ هذه الدعوى وإن كانت مقبولة في الجملة، نظرا إلى وجود جملة من تلك المخصّصات فيالكتب المرويّة بطرق العامّة، وجملة من أسانيدها معتبرة ومنتهية إلى خيار الصحابة«رضي اللّه عنهم»كعبادة بن صامت وغيره، إلاّ أنّ دعوى وجود كلّ مخصّص صادر عن الأئمّة المتأخّرين«صلوات اللّهعليهم أجمعين» في زمان صدور العمومات السابقة لا تخلو عن الجزاف كما هو ظاهر.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن كان قبيحا في حدّ ذاته، إلاّ أنّه لا مانعمن عروض عنوان آخر عليه موجب لارتفاع قبحه، بل لاتّصافه بالحسن، نظير بقيّة العناوين القبيحة لو لعروض عنوان آخر عليها، فإذا فرض اقتضاء الحكمة من تقيّة أو غيرها تأخير البيان فلابدّ من التأخير،وإلاّ لزم العمل على خلاف الحكمة، فالإشكال المذكور إنّما نشأ من تخيّل أنّ القبح في المقام نظير القبحالثابت للظلم الغير الممكن تخلّفه عنه، مع أنّه من الضروري أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو تابع لتحقّقملاكه، فإذا اقتضت الحكمة تأخير البيان لمصلحة أقوى فلا مناص عن التأخير، حفظا لتلك المصلحة،إنتهى كلامه رحمهالله . أجود التقريرات 4: 299. م ح ـ ى.
ج6
من الخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام منقول في كتب العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وهذا يكشف عن أنّ العمومات النبويّة كانت متّصلة بمخصّصاتها ثمّ اختفتالمخصّصات علينا(1).
الثالث: أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما يكون قبيحا فيما إذا صدرالعامّ لبيان الحكم الواقعي، ويمكن أن يكون المخاطبون بالعامّ في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله مكلّفين بحسب الظاهر بالعمل على العموم لمصلحة، مع أنّ المراد به الخصوصواقعا وتبيّن لنا ذلك بعد صدور الخاصّ في لسان الأئمّة عليهمالسلام .
وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ رحمهالله لدفع الإشكال.
واختاره المحقّق الخراساني رحمهالله أيضاً حيث قال ما حاصله:
تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما يكون قبيحا إذا لم يكن فيه مصلحةأقوى أو في تقديمه مفسدة أقوى، فلم يكن بأس بتخصيص عمومات الكتابوالسنّة بالخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام واستكشاف أنّ موردها كانخارجا عن حكم العامّ واقعا وإن كان داخلاً فيه ظاهرا(2).
وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ رحمهالله وإن كان يخالفه تعبيرا.
حقّ المقال في حلّ الإشكال
والذي يخطر بالبال في حلّ الإشكال أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله بيّن جميع أحكام الإسلام،عموماتها ومخصّصاتها، مطلقاتها ومقيّداتها، محكماتها ومتشابهاتها، وجميع مله دخل فيها، حتّى أرش الخدش كما في بعض الأخبار(3).
- (1) فوائد الاُصول 4: 737.
(صفحه408)
ويشهد عليه أيضاً قوله صلىاللهعليهوآله في حجّة الوداع: «يا أيّها الناس واللّه ما منشيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيءيقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه»(1).
فهو صلىاللهعليهوآله بيّن جميع الأحكام وكتبها عليّ عليهالسلام في صحيفته وأراد تبليغها علىالناس، لكنّه عليهالسلام صار بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مظلوما في حقّه ولم يلتفت الناس إلىصحيفته، بل قالوا: حسبنا كتاب اللّه، وهذا الأمر وإن لم يحتج إلى الإثبات،لتوفّر الدواعي عليه بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلاّ أنّ بعض الأخبار يدلّ عليه:
ففي كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّه قال: قلت لعليّ عليهالسلام : يا أمير المؤمنينإنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن ومن الرواية عنالنبيّ صلىاللهعليهوآله ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياءَكثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله تخالف الذي سمعتهمنكم، وأنتم تزعمون أنّ ذلك باطل افترى الناس يكذبون على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدين، ويفسّرون القرآن برأيهم.
قال: فأقبل عليّ فقال لي: «يا سليم، قد سألت، فافهم الجواب، إنّ في أيديالناس حقّا وباطلاً، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وخاصّا وعامّا،ومحكما ومتشابها، وحفظاً ووهما، وقد كذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على عهدهحتّى قام فيهم خطيبا فقال: أيّها الناس قد كثرت علىّ الكذّابة، فمن كذب علىّمتعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار، ثمّ كذب عليه من بعده حين توفّي رحمة اللّهعلى نبّي الرحمة وصلّى اللّه عليه وآله، وإنّما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليسلهم خامس:
- (1) الكافي 1: 59، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحراموجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 3.
- (2) الكافي 2: 74، كتاب الإيمان والكفر، باب الطاعة والتقوى، الحديث 2.
ج6
رجل منافق مُظهر للإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأثّم(1) ولا يتحرّج(2) أنيكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدا، فلو علم المسلمون أنّه منافق كذّاب لميقبلوا منه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله رآه وسمعمنه وهو لا يكذب ولا يستحلّ الكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقد أخبر اللّه عنالمنافقين بما أخبر، ووصفهم بما وصفهم، فقال اللّه عزّ وجلّ: «وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْتُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(3) ثمّ بقوا بعده، وتقرّبوا إلى أئمّةالضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولّوهم الأعمالوحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم من الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك فيالدنيا(4) إلاّ من عصم اللّه، فهذا أوّل الأربعة.
ورجل سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئاً فلم يحفظه على وجهه ووهم فيه ولميتعمّد كذبا، وهو في يده يرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنّه وهم فيه لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم،أو سمعه نهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظالناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنّه منسوخ إذ سمعوهلرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على اللّه ولا على رسوله، بغضا للكذب، وتخوّفا مناللّه، وتعظيما لرسوله صلىاللهعليهوآله ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كمسمعه، ولم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ
- (1) لا يتأثّم: أي: لا يخاف الإثم. م ح ـ ى.
- (2) لا يتحرّج: أي: لا يخشى الوقوع في الحرج. م ح ـ ى.
- (4) في نهج البلاغة: 326 «مع الملوك والدنيا». م ح ـ ى.