ورفض المنسوخ، وأنّ أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ونهيه مثل القرآن: ناسخ ومنسوخ،وعامّ وخاصّ، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله الكلام لهوجهان: كلام خاصّ، وكلام عامّ، مثل القرآن، يسمعه من لا يعرف ما عنى اللّهبه وما عنى به رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كان يسأله،فيفهم... وكنت أدخل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كلّ يوم دخلة وفي كلّ ليلة دخلة،فيخلّيني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أنّه لم يكنيصنع ذلك بأحد من الناس غيري، وربما كان ذلك في منزلي، يأتيني رسولاللّه صلىاللهعليهوآله ، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نسائه، فلم يبق غيريوغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا أحد من ابنيّ،وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتّ أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليهآية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطّي، ودعا اللّه أن يفهمنيإيّاها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب اللّه منذ حفظتها، وعلّمني تأويلها،فحفظته، وأملاه عليَّ، فكتبته، وما ترك شيئا علّمه اللّه من حلال وحرام، أوأمرٍ ونهي، أو طاعة ومعصية، كان أو يكون إلى يوم القيامة إلاّ وقد علّمنيهوحفظته ولم أنسَ منه حرفا واحداً»(1). الحديث.
وبالجملة: يستفاد من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله بيّن جميعالأحكام، فالمخصّصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام كلّها صدرت قبلهم من قبلالنبيّ صلىاللهعليهوآله ، فلا إشكال في تخصيص الكتاب أو السنّة النبويّة بها.
وهذا وإن كان يشبه الوجه الثاني المتقدّم من الشيخ رحمهالله الذي اختاره المحقّقالنائيني، إلاّ أنّه يخالفه في بعض الجهات:
منها: أنّ قضيّة ما ذكرنا أنّ جميع الأحكام الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام صدرتقبلهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لا المخصّصات فقط.
ومنها: أنّه لا دليل على كون جميع المخصّصات متّصلةً بعموماتها فيكلامه صلىاللهعليهوآله ، فلعلّها كان بعضها أو جميعها منفصلةً عنها، لكنّها صدرت قبلحضور وقت العمل بالعمومات.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل البحث، وهو دوران الأمر بين النسخوالتخصيص، فنقول:
تحرير محلّ النزاع في الدوران بين النسخ والتخصيص
إنّ محلّ البحث إنّما يكون فيما إذا أمكن كلّ منهما وتحقّق شرائط كليهما، وأمّإذا دلّ دليل على عدم إمكان أحدهما لفقد شرطه فهو خارج عن محلّ الكلام.
فما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله ، من أنّ التخصيص مقدّم على النسخ عندالدوران، واستدلّ عليه بأنّه إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال: «لا تكرم الفسّاقمن العلماء» يتوقّف النسخ على ثبوت حكم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد،ومقتضى ما تقدّم(1) من حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالةالظهور في طرف العامّ هو عدم ثبوت حكم العامّ لأفراد الخاصّ، فيرتفعموضوع النسخ، فاسد(2).
لأنّه خارج عن محلّ النزاع، لتعيّن التخصيص عند ارتفاع موضوع النسخ،
- (2) كلمة «فاسد» خبر لقوله«مدّ ظلّه»: «ما أفاده». م ح ـ ى.
(صفحه412)
لفقد شرطه، فلا يدور الأمر بينهما.
على أنّا نمنع كون المخصّص قرينة على التصرّف في العامّ، كما عرفت(1).
أضف إلى ذلك: أنّ حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالةالظهور في طرف العامّ ـ على فرض صحّتها ـ مبنيّة على التخصيص الذي هوأوّل الكلام، إذ لا وجه للحكومة بناءً على النسخ.
فلو سلّم كون الخاصّ قرينة على التصرّف في العامّ وكون أصالة الظهور فيالقرينة حاكمة على أصالة الظهور في ذيها، لا ينطبق هذا الكلام على المقام،لعدم إحراز كون الدليل الثاني مخصّصا للأوّل.
صور دوران الأمر بين النسخ والتخصيص
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ لمحلّ النزاع ثلاثة موارد:
الأوّل: ما إذا صدر العامّ بعد صدور الخاصّ وحضور وقت العملبه(2)، فالأمر حينئذٍ دائر بين كون الخاصّ مخصّصا للعامّ وبين كون العامّناسخا للخاصّ.
الثاني: ما إذا انعكس الأمر، فالأمر دائر بين كون الخاصّ مخصّصللعامّ وبين كونه ناسخا له بناءً على ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله من إمكانإرادة العموم من العامّ المتقدّم ظاهرا مع أنّ الحكم الواقعي يدور مدارالخاصّ المتأخّر.
الثالث: ما إذا شكّ في المتقدّم منهما، فلو كان الخاصّ متقدّما على العامّ لكانمنسوخا به(3)، ولو كان متأخّرا عنه لكان مخصّصا له(4).
- (2) وذلك لأنّ النسخ مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ. م ح ـ ى.
ج6
ولابدّ قبل بيان الحقّ في هذه الصور الثلاث من ذكر نكتة، وهي أنّالتخصيص يكون في مقابل العموم الأفرادي، فهو يدلّ على أنّ مورد الخاصّلم يكن مرادا جدّيّا أصلاً، بخلاف النسخ، فإنّه يقابل استمرار الدليل المنسوخمع كون مورد الناسخ مرادا جدّيّا قبل صدوره.
والاستمرار تارةً: يستفاد من إطلاق الدليل، واُخرى: من كونهبنحو القضيّة الحقيقيّة، وثالثةً: من دليل لفظي آخر، كقوله:«حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يومالقيامة»(1).
حكم ما إذا صدر الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ
فإذا كان الخاصّ صادرا بعد حضور وقت العمل بالعامّ(2)، واستفيدالاستمرار في العامّ من الإطلاق، فربما يتوهّم أنّ النسخ مقدّم على التخصيص،لأنّه في الواقع تقييد للإطلاق، فالأمر دائر واقعا بين تخصيص العموم الأفراديوتقييد الإطلاق الأزماني، وقد عرفت أنّ التقييد مقدّم على التخصيص إذا دارالأمر بينهما(3)، فلابدّ في المقام من القول بتقدّم النسخ على التخصيص.
ولكنّ الحقّ عدم تقدّم واحد منهما على الآخر، وذلك لأنّ ما ذكرناه منتقديم التقييد على التخصيص إنّما هو في فرض تعارض العموم والإطلاق، كم
- (1) هذا ينافي ما سيأتي في ص426 من أنّ الخاصّ لو صدر قبل حضور وقت العمل بالعامّ ـ سواء صدر قبلهأو بعده وقبل حضور وقت العمل به ـ لكان مخصّصا، واحتمال النسخ منحصر بفرض ورود الخاصّ بعدحضور وقت العمل بالعامّ. م ح ـ ى.
- (2) في هذه الصورة الثالثة أربعة فروض، وسيتّضح الحقّ فيها إنشاء اللّه تعالى. م ح ـ ى.
- (3) الكافي 1: 58، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقائيس، الحديث 19.
- (4) هذا هو الصورة الثانية من الصور الثلاث المتقدّمة. م ح ـ ى.