ج6
لكن يمكن المناقشة في هذا الوجه بأنّ العامّ المخصّص لا يصير معنونبعنوان الخاصّ على ما هو التحقيق، لأنّ التخصيص تصرّف في الإرادةالجدّيّة، لا الاستعماليّة.
فالوجه الصحيح لوقوع العامّ طرفا للمعارضة هو الوجه الأوّل.
نعم، هاهنا إشكال، وهو أنّ مقتضى هذا الوجه أن يكون الفاسق النحويمحكوما بحكم العامّ، لأنّ الخاصّين إذا تعارضا فيه وتساقطا فلا دليل علىإخراجه عن تحت العامّ، فيعمّه العامّ سليما عن المعارض.
هذا كلّه فيما إذا كان أحد الأدلّة عامّا والآخران خاصّين.
تعارض عامّين من وجه وخاصٍّ
الصورة الثانية من موارد تعارض أكثر من دليلين: ما إذا ورد عامّان منوجه وخاصّ(1).
فإن أخرج الخاصّ مادّة الاجتماع من أحدهما ـ كما إذا قال: «أكرم كلّعالم» و«لا تكرم كلّ فاسق» و«لا تكرم العالم الفاسق» ـ يرتفع التعارض منبينهما، لاختصاص كلّ منهما بموضوع غير موضوع الآخر، فإنّ العامّ الأوّل بعدتخصيصه بالخاصّ وإخراج العالم الفاسق من تحته يصير مفاده من حيثالحجّيّة والإرادة الجدّيّة(2): «أكرم كلّ عالم غير فاسق» ولا اختلاف بينه وبين«لا تكرم كلّ فاسق» كما هو واضح.
وإن أخرج الخاصّ مورد افتراق أحدهما ـ كما إذا بدّلنا الخاصّ في المثال
- (1) قال شيخنا الاُستاذ المحاضر«مدّ ظلّه»: هذا الخاصّ لا محالة يكون مخصّصا لأحد العامّين من وجه.
لكن يمكن أن يقال بإمكان أن يكون مخصّصا لكليهما، بإخراج مادّة الاجتماع منهما، كما إذا قال: «أكرمالعلماء» و «لا تكرم الفسّاق» و «يستحبّ إكرام العالم الفاسق». م ح ـ ى.
- (2) لا من حيث الدلالة والإرادة الاستعماليّة. م ح ـ ى.
(صفحه434)
بقولنا: «أكرم الفاسق الجاهل» ـ تنقلب النسبة بين العامّين من وجه إلى الأعمّوالأخصّ مطلقا، وذلك لأنّ العامّ الثاني بعد تخصيصه بالخاصّ لا يكون حجّةإلاّ في الفاسق غير الجاهل وهو الفاسق العالم، فهو أخصّ من العامّ الأوّل كمهو واضح، فيخصّصه، فيكون مفاد الأوّل من حيث الحجّيّة وجوب إكرامالعالم غير الفاسق ومفاد الثاني حرمة إكرام العام الفاسق.
تعارض عامّين متباينين وخاصّ(1)
الصورة الثالثة: ما إذا ورد دليلان متباينان وخاصّ:
فقد يرتفع التباين بينهما بإعمال الخاصّ ويصيران أعمّ وأخصّ مطلقا، كمإذا قال: «أكرم كلّ عالم» و«لا تكرم كلّ عالم» و«لا تكرم فسّاق العلماء»فالنسبة بين الدليلين الأوّلين وإن كانت هي التباين، إلاّ أنّ الأوّل إذا خصّصبالثالث صار مفاده «أكرم كلّ عالم غير فاسق» فانقلبت النسبة بين الأوّلين إلىالعموم والخصوص المطلق، فيخصّص الأعمّ وهو الدليل الثاني بالأخصّ وهوالدليل الأوّل.
وقد ينقلب التباين بالتخصيص إلى العموم من وجه(2)، فيتعارضان في مادّةالاجتماع.
هذا تمام الكلام في انقلاب النسبة.
- (2) كما لو ورد: «أكرم العلماء» و «لا تكرم العلماء» و «أكرم النحويّين من العلماء» و «لا تكرم الفسّاق منالعلماء» فإنّ الأوّل يخصّص بالرابع، والثاني بالثالث، ويصير مفادهما: «أكرم العلماء غير الفسّاق منهم» و«لا تكرم العلماء غير النحويّين منهم» وكون النسبة بينهما عموما من وجه واضح. اقتبست هذا المثال منرسائل الإمام الخميني«مدّ ظلّه» مبحث التعادل والترجيح: 36. م ح ـ ى.
ج6
في ضابط التعارض
بيان ضابط التعارض
إنّ الأخبار العلاجيّة كما عرفت(1) تدور مدار عنوانين: أحدهما: الخبرانالمتعارضان، والثاني: الحديثان المختلفان.
نعم، في بعضها: «يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرو الآخر ينهى»(2).
لكنّه من باب ذكر مصاديق التعارض والاختلاف، وليس عنوانا ثالثا فيالمقام.
ثمّ الميزان في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعيّة هو العرف،والتعارض والاختلاف يتساويان عند العرف سعة وضيقا، بل يتّحدانمفهوما، فهما مترادفان.
إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في كون المتباينين ـ مثل «يجب إكرامالعلماء» و«لا يجب إكرام العلماء» ـ من المتعارضين.
والأخصّ المطلق إذا كان تخصيص العامّ به مستهجنا يعامل معهما أيضمعاملة الخبرين المختلفين، لاندراجهما فيهما حقيقةً(3)، لكن خروجهما عن أدلّةالعلاج إنّما هو لأجل الجمع العرفي، وحيث إنّ الجمع العرفي مشروط بكون
- (2) ورد مضمونه في وسائل الشيعة27: 122، كتاب القضاء، الباب9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.
- (3) لما ثبت في المنطق من تناقض الموجبة الكلّيّة مع السالبة الجزئيّة وبالعكس. م ح ـ ى.
(صفحه436)
المتكلّم في مقام التقنين وعدم كون التخصيص مستلزما للاستهجان فمع فقدأحد هذين الشرطين انتفى الجمع العرفي ويعامل معهما معاملة المتعارضين،فيندرجان في الأخبار العلاجيّة.
إنّما البحث في ثلاثة موارد اُخر:
أحدها: ما إذا كانت النسبة بين الدليلين عموما من وجه، كقوله: «أكرمالعلماء» و«لا تكرم الفسّاق».
إن قلت: لا مجال لهذا البحث على ما اخترت من جواز اجتماع الأمروالنهي(1).
قلت: موضوع البحثين مختلف، لأنّا قلنا هناك بجواز اجتماعهما بعد إحرازملاكهما، فهما من قبيل المتزاحمين، بخلاف المقام، فإنّا نعلم أنّ لمورد الاجتماع منالعامّين من وجه ملاكا واحداً، فهما من قبيل المتعارضين، فيقع البحث في أنّهمهل يندرجان في الأخبار العلاجيّة التي موضوعها الخبران المتعارضانوالحديثان المختلفان أم لا؟
الثاني: ما إذا كان الدليلان متعارضين بالعرض، كما إذا ورد دليل بوجوبصلاة الجمعة ودليل آخر بوجوب صلاة الظهر وعلم وجوب أحدهما وعدموجوب الآخر، فإنّ هذا العلم يوجب التعارض بينهما بالعرض، وكما إذا وردخاصّان غير متعارضين ذاتا، لكن كان تخصيص العامّ بكليهما موجبللاستهجان(2)، فإنّه يوجب التعارض بالعرض بين الخاصّين.
الثالث: ما إذا لم يكن بين الدليلين في مدلوليهما المطابقيّين تعارض، لكنكان لكلّ منهما مدلول التزامي، وهما متعارضان.
- (1) راجع ص75 ـ 82 من الجزء الثالث.
- (2) كما إذا قال: «أكرم العلماء» و «لا تكرم الكوفيّين منهم» و «لا تكرم البصريّين منهم» وكان كلّ العلماء أوجلّهم أهل هذين البلدين. م ح ـ ى.
ج6
البحث حول شمول أخبار العلاج العامّين من وجه
أمّا التعارض بالعموم من وجه: فقال المحقّق النائيني رحمهالله بشمول أخبارالعلاج له، لأنّ الدليلين يختلفان ويتعارضان في مادّة اجتماعهما فيشملهمالأخبار العلاجيّة(1).
ويمكن أن يقال: إنّ العامّين من وجه وإن كانا متعارضين في مادّة الاجتماع،إلاّ أنّ العرف لا يراهما كذلك، لأنّ كلاًّ منهما ذو عنوان مستقلّ غير مرتبطبعنوان الآخر، ألا ترى أنّا إذا قلنا: «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» ليرتبط مفهوم «العلماء» بمفهوم «الفسّاق»؟ وإن كان بعض الأشخاص مصداقلكليهما.
فالتعارض بينهما إنّما هو في مقام الإجراء، لا في نظر العرف، والملاك فيتشخيص الموضوعات هو العرف.
على أنّالظاهر من أخبار العلاج هو أخذ أحدهما ترجيحا أو تخييرا وتركالآخر رأسا، كما في قوله: «خذبما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر»(2)وقوله: «ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف(3)، أو باطل(4)، أو فإنّي لم أقله(5)،أو فردّوه»(6) وأمثال ذلك.
مع أنّ العامّين من وجه حجّة في مادّة افتراقهما حتّى المرجوح منهما، فكيفيشملهما الأخبار العلاجيّة؟!
- (1) فوائد الاُصول 4: 792.
- (2) مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
- (3) وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
- (4) وسائل الشيعة 27: 123، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 48.
(5) وسائل الشيعة 27: 111، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.
- (6) وسائل الشيعة 27: 118، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.