ج6
في ضابط التعارض
بيان ضابط التعارض
إنّ الأخبار العلاجيّة كما عرفت(1) تدور مدار عنوانين: أحدهما: الخبرانالمتعارضان، والثاني: الحديثان المختلفان.
نعم، في بعضها: «يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرو الآخر ينهى»(2).
لكنّه من باب ذكر مصاديق التعارض والاختلاف، وليس عنوانا ثالثا فيالمقام.
ثمّ الميزان في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعيّة هو العرف،والتعارض والاختلاف يتساويان عند العرف سعة وضيقا، بل يتّحدانمفهوما، فهما مترادفان.
إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في كون المتباينين ـ مثل «يجب إكرامالعلماء» و«لا يجب إكرام العلماء» ـ من المتعارضين.
والأخصّ المطلق إذا كان تخصيص العامّ به مستهجنا يعامل معهما أيضمعاملة الخبرين المختلفين، لاندراجهما فيهما حقيقةً(3)، لكن خروجهما عن أدلّةالعلاج إنّما هو لأجل الجمع العرفي، وحيث إنّ الجمع العرفي مشروط بكون
- (2) ورد مضمونه في وسائل الشيعة27: 122، كتاب القضاء، الباب9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.
- (3) لما ثبت في المنطق من تناقض الموجبة الكلّيّة مع السالبة الجزئيّة وبالعكس. م ح ـ ى.
(صفحه436)
المتكلّم في مقام التقنين وعدم كون التخصيص مستلزما للاستهجان فمع فقدأحد هذين الشرطين انتفى الجمع العرفي ويعامل معهما معاملة المتعارضين،فيندرجان في الأخبار العلاجيّة.
إنّما البحث في ثلاثة موارد اُخر:
أحدها: ما إذا كانت النسبة بين الدليلين عموما من وجه، كقوله: «أكرمالعلماء» و«لا تكرم الفسّاق».
إن قلت: لا مجال لهذا البحث على ما اخترت من جواز اجتماع الأمروالنهي(1).
قلت: موضوع البحثين مختلف، لأنّا قلنا هناك بجواز اجتماعهما بعد إحرازملاكهما، فهما من قبيل المتزاحمين، بخلاف المقام، فإنّا نعلم أنّ لمورد الاجتماع منالعامّين من وجه ملاكا واحداً، فهما من قبيل المتعارضين، فيقع البحث في أنّهمهل يندرجان في الأخبار العلاجيّة التي موضوعها الخبران المتعارضانوالحديثان المختلفان أم لا؟
الثاني: ما إذا كان الدليلان متعارضين بالعرض، كما إذا ورد دليل بوجوبصلاة الجمعة ودليل آخر بوجوب صلاة الظهر وعلم وجوب أحدهما وعدموجوب الآخر، فإنّ هذا العلم يوجب التعارض بينهما بالعرض، وكما إذا وردخاصّان غير متعارضين ذاتا، لكن كان تخصيص العامّ بكليهما موجبللاستهجان(2)، فإنّه يوجب التعارض بالعرض بين الخاصّين.
الثالث: ما إذا لم يكن بين الدليلين في مدلوليهما المطابقيّين تعارض، لكنكان لكلّ منهما مدلول التزامي، وهما متعارضان.
- (1) راجع ص75 ـ 82 من الجزء الثالث.
- (2) كما إذا قال: «أكرم العلماء» و «لا تكرم الكوفيّين منهم» و «لا تكرم البصريّين منهم» وكان كلّ العلماء أوجلّهم أهل هذين البلدين. م ح ـ ى.
ج6
البحث حول شمول أخبار العلاج العامّين من وجه
أمّا التعارض بالعموم من وجه: فقال المحقّق النائيني رحمهالله بشمول أخبارالعلاج له، لأنّ الدليلين يختلفان ويتعارضان في مادّة اجتماعهما فيشملهمالأخبار العلاجيّة(1).
ويمكن أن يقال: إنّ العامّين من وجه وإن كانا متعارضين في مادّة الاجتماع،إلاّ أنّ العرف لا يراهما كذلك، لأنّ كلاًّ منهما ذو عنوان مستقلّ غير مرتبطبعنوان الآخر، ألا ترى أنّا إذا قلنا: «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» ليرتبط مفهوم «العلماء» بمفهوم «الفسّاق»؟ وإن كان بعض الأشخاص مصداقلكليهما.
فالتعارض بينهما إنّما هو في مقام الإجراء، لا في نظر العرف، والملاك فيتشخيص الموضوعات هو العرف.
على أنّالظاهر من أخبار العلاج هو أخذ أحدهما ترجيحا أو تخييرا وتركالآخر رأسا، كما في قوله: «خذبما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر»(2)وقوله: «ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف(3)، أو باطل(4)، أو فإنّي لم أقله(5)،أو فردّوه»(6) وأمثال ذلك.
مع أنّ العامّين من وجه حجّة في مادّة افتراقهما حتّى المرجوح منهما، فكيفيشملهما الأخبار العلاجيّة؟!
- (1) فوائد الاُصول 4: 792.
- (2) مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
- (3) وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.
- (4) وسائل الشيعة 27: 123، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 48.
(5) وسائل الشيعة 27: 111، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.
- (6) وسائل الشيعة 27: 118، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
(صفحه438)
نعم، لا يبعد أن يقال بشمولها لهما بالملاك، بل بالأولويّة.
توضيح ذلك: أنّ أحكام الأخبار العلاجيّة لو لم تجر في العامّين من وجهفلابدّ من القول بتساقطهما في مادّة الاجتماع، لكونه هو مقتضى القاعدة الأوّليّةفي المتعارضين على ما سيأتي(1) تحقيقه، مع أنّ الالتزام بلزوم الأخذ بأحدالدليلين إمّا ترجيحا وإمّا تخييرا بمقتضى الأخبار العلاجيّة فيما إذا كانمتعارضين بالتباين، وبالتساقط فيما إذا كانا متعارضين في الجملة، مشكل(2).
فالأخبار العلاجيّة وإن لم تشملها لسانا، لما تقدّم من الوجهين، إلاّ أنّهتعمّهما بالملاك وإلغاء الخصوصيّة، بل بالأولويّة.
ثمّ على القول بالشمول إمّا لسانا وإمّا ملاكا فهل يجري فيهما جميعالمرجّحات، سواء كانت صدوريّة، كالأعدليّة والأصدقيّة ونحوهما، أو جهتيّة،كمخالفة العامّة، أو مضمونيّة، كموافقة الشهرة الفتوائيّة(3)، أو لا يجري فيالعامّين من وجه إلاّ بعضها؟
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
قال المحقّق النائيني رحمهالله بعدم جريان المرجّحات الصدوريّة فيهما، لأنّالترجيح بها مستلزم للحكم بعدم صدور المرجوح، وهذا ينافي حجّيّة العامّينمن وجه حتّى المرجوح منهما من حيث الصدور في مادّة الافتراق، لعدم(4)تحقّق التعارض فيها.
- (2) سيأتي في ص449 عدول الاُستاذ«مدّ ظلّه» عن هذا. م ح ـ ى.
- (3) فإنّ موافقة الشهرة الفتوائيّة لأحد الخبرين تؤيّد أنّ مضمونه حكم اللّه الواقعي. م ح ـ ى.
- (4) علّة لحجّيّتهما في مادّة الافتراق. م ح ـ ى.
ج6
هذا إن اُريد من الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة في العامّين من وجهطرح الخبر المرجوح رأسا.
وإن اُريد منالرجوع إليها طرحه في خصوص مادّة الاجتماع التي هي موردالتعارض فهو غير ممكن، فإنّ الخبر الواحد لا يقبل التبعيض في المدلول منحيثالصدور، بحيث يكون صادرا فيبعض مدلوله وغيرصادر في بعض آخر.
وما يقال من أنّ الخبر الواحد ينحلّ إلى أخبار متعدّدة حسب تعدّد أفرادالموضوع كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة، فإنّ قوله: «أكرم العلماء»بمنزلة أن يقال: «أكرم زيدا وأكرم عمرا وأكرم خالدا و...» فلا محذور فيطرح أحد العامّين من وجه في خصوص مادّة الاجتماع، لأنّ الانحلال يقتضيأن يكون لخصوص مادّة الاجتماع قضيّة تخصّها، فتسقط بالمعارضة مع ماهيأقوى منها صدورا.
واضح الفساد، فإنّ الانحلال في القضايا الحقيقيّة لا يقتضي تعدّد الرواية، بلليس في البين إلاّ رواية واحدة رتّب فيها الحكم على موضوعها المقدّر وجوده.
فتحصّل أنّ تقديم أحد العامّين من وجه على الآخر إمّا بالمرجّح الجهتيوإمّا بالمرجّح المضموني(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في المقام.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
وفيه أوّلاً: أنّ عدم إمكان الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة في العامّين منوجه شاهد على ما اخترناه من عدم اندراجهما في الأخبار العلاجيّة.
وبعبارة اُخرى: سياق هذه الأخبار بالنسبة إلى جميع أنواع المرجّحات
- (1) فوائد الاُصول 4: 792.