أقول: إن أراد به ما يشابه مقالة المحقّق النائيني رحمهالله من تخصيص أخبارالتخيير ببعض أخبار التوقّف حتّى تنقلب النسبة، ففيه: ما تقدّم من الإشكالعلى مقالة النائيني رحمهالله .
وثانيا: أنّ المراد من التمكّن إمّا أن يكون التمكّن الفعلي في حال حضورالواقعة ووقت العمل بها، بأن يكون الإمام عليهالسلام حاضرا في البلد مثلاً، فهويستلزم اختصاص أخبار التوقّف بموارد نادرة، لأنّ الإمام عليهالسلام إن كان فيالمدينة الطيّبة مثلاً فأهلها مأمورون بالتوقّف بمقتضى أخباره، وسائر المسلمينكلّهم مخيّرون في الأخذ بما شاؤوا من المتعارضين بمقتضى أخبار التخيير.
وإمّا أن يكون المراد به التمكّن ولو في المستقبل في مقابل عدم التمكّن مطلقا،فهو يستلزم العكس ـ أعني اختصاص أخبار التخيير بموارد نادرة ـ إذ من ليتمكّن من الوصول إليه عليهالسلام ولو بطيّ طريق بعيد نادر جدّا.
على أنّ السائل في كثير من أخبار التخيير كان متمكّنا من الوصول إلىالإمام عليهالسلام وسأل عن المتعارضين لعمل نفسه وتشخيص وظيفته، فكيفأجاب عليهالسلام بالتخيير الذي هو وظيفة غيره؟! وهل هذا إلاّ خروج مورد الروايةعن تحتها؟! والمورد وإن لم يكن مخصّصا، إلاّ أنّ خروجه أيضاً لا يجوز، لكونههو القدر المتيقّن من الرواية.
وذهب المحقّق المؤسّس الحائرياليزدي رحمهالله في كتاب الدرر إلى حمل أخبارالتوقّف على الإفتاء، وأخبار التخيير على العمل(1).
نقد ما أفاده المحقّق الحائري رحمهالله في المقام
وفيه: أنّه أيضاً جمع تبرّعي لا شاهد له في الأخبار، بل بعض أخبار التوقّفنصّ في مقام العمل، كقوله عليهالسلام في خبر سماعة: «لا تعمل بواحد منهما»(2)وبعضها ظاهر فيه، كقوله عليهالسلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا كان ذلك(3)فأرجئه حتّى تلقى إمامك»(4) فإنّ الإرجاء تأخير الأخذ بالخبرين، وظاهرهترك العمل بهما.
ولهم وجوه اُخر في الجمع نقلها المجلسي رحمهالله في مرآة العقول(5):
منها: حمل أخبار التخيير على العبادات، والتوقّف على المعاملات.
- (2) وسائل الشيعة 27: 122، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.
- (3) أي: إذا تكافأ الخبران من جميع الجهات. م ح ـ ى.
- (4) وسائل الشيعة 27: 107، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
- (5) قال رحمهالله في مرآة العقول 1: 218، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ذيل الحديث 7: ثمّ اعلم أنّهيمكن رفع الاختلاف الذي يترائى بين الخبرين بوجوه قدأومأنا إلى بعضها:
الأوّل: أن يكون الإرجاء في الحكم والفتوى، والتخيير في العمل.
الثاني: أن يكون الإرجاء فيما إذا أمكن الوصول إلى الإمام عليهالسلام ، والتخيير فيما إذا لم يمكن، كهذا الزمان.
الثالث: أن يكون الإرجاء في المعاملات، والتخيير في العبادات.
الرابع: أن يخصّ الإرجاء بما يمكن الإرجاء فيه، بأن لا يكون مضطرّا إلى العمل بأحدهما، والتخيير بمإذا لم يكن له بدّ من العمل بأحدهما.
الخامس: أن يحمل الإرجاء على الاستحباب، والتخيير على الجواز، إنتهى كلامه.
أقول: أراد بـ «الخبرين»:
أ ـ ما رواه الكليني في الكافي 1: 66، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث7، بإسناده عنسماعة، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه:أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال: «يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعةٍحتّى يلقاه».
ب ـ قوله في ذيله: وفي رواية اُخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك». م ح ـ ى.
ج6
ومنها: حمل أخبار التخيير على حقوق اللّه، والتوقّف على حقوق الناس.
ولعلّ وجهه ورود المقبولة في مورد المنازعة في دين أو ميراث، وهو حقّمالي من حقوق الناس.
وفيه: أنّ المورد لا يكون مخصّصا.
ويؤيّده أنّه لو كان التوقّف في المقبولة مخصوصا بالاُمور الماليّة لكانالمرجّحات المذكورة فيها قبل الأمر بالتوقّف والإرجاء(1) أيضاً مخصوصةبالخبرين المتعارضين الواردين في المال، ولم يتفوّه به أحد.
ومنها: حمل أخبار التخيير على التعارض بنحو التناقض، فإنّ المكلّفحينئذٍ يضطرّ إلى اختيار أحد طرفي النقيض، لاستحالة ارتفاع النقيضين،وأخبار التوقّف على غيره من الموارد التي لا يكون مضطرّا إلى العملبأحدهما.
وهذه الوجوه الثلاثة أيضاً تبرّعيّة لا شاهد لها.
الحقّ في الجمع بين أخبار التخيير والتوقّف
والحقّ ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في الجمع بينهما،وهو أنّ أخبار التخيير نصّ في جواز الأخذ بأحدهما، وأخبار التوقّف ظاهرةفي وجوب الإرجاء وحرمة العمل بهما، ومقتضى القاعدة حمل روايات التوقّفعلى رجحانه ومرجوحيّة العمل والأخذ بأخبار التخيير الدالّة على جوازالعمل بأحدهما.
بل يمكن أن يقال: إنّ قوله عليهالسلام في ذيل المقبولة: «أرجئه حتّى تلقى إمامك»أمر إرشادي، لا مولوي، لأنّه معلّل بقوله عليهالسلام : «فإنّ الوقوف عند الشبهات
- (1) الإرجاء: تأخير العمل بأحد المتعارضين. م ح ـ ى.
(صفحه458)
خير من الاقتحام في الهلكات» ومسبوق بقوله عليهالسلام : «إنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّنرشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلىرسوله، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن تركالشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك منحيث لا يعلم»(1).
فإنّ التعليل المذكور وتثليث الاُمور إلى آخره ظاهران في أنّ الأمربالإرجاء إرشاد إلى ما هو أصلح بحال المكلّف، لأنّه بالوقوف عند الشبهةيتخلّص عن الاقتحام في الهلكة(2).
هذا حاصل كلام سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» في المقام، وهوصحيح متين.
جمع آخر بين أحاديث الباب ونقده
وذهب بعضهم إلى الجمع بينهما بحمل أخبار التخيير على التخيير فيالمستحبّات والمكروهات، وحمل أخبار التوقّف على التوقّف في الواجباتوالمحرّمات، فإذا دلّ أحد الخبرين على الاستحباب أو الكراهة والآخر علىنفيه أو دلّ أحدهما على الاستحباب والآخر على الكراهة نختار أحدهمونعمل به، وإذا دلّ أحدهما على الوجوب أو الحرمة والآخر على عدمه أو دلّأحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة فلابدّ من التوقّف.
واستدلّ عليه برواية الميثمي، والمناسب نقل هذه الرواية الشريفة بطولهحتّى يتّضح بطلان هذه الدعوى.
- (1) الكافي 1: 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
- (2) الرسائل، مبحث التعادل والترجيح: 53.
ج6
ففي عيون الأخبار عن أبيه ومحمّد بن الحسن بن الوليد جميعا عن سعد بنعبد اللّه، عن محمّد بن عبد اللّه المسمعي، عن أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سألالرضا عليهالسلام يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون فيالحديثين المختلفين عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في الشيء الواحد، فقال عليهالسلام : «إنّ اللّه حرّمحراما وأحلّ حلالاً وفرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرّم اللّه أو فيتحريم ما أحلّ اللّه أو دفع فريضة في كتاب اللّه رسمها(1) بيّن قائم بلا ناسخ نَسَخَذلك فذلك ما لا يسع الأخذَ به، لأنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله لم يكن ليحرّم ما أحلّ اللّهولا ليحلّل ما حرّم اللّه ولا ليغيّر فرائض اللّه وأحكامه، كان في ذلك كلّه متّبعمسلّما مؤدّيا عن اللّه، وذلك قول اللّه: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىآ إِلَىَّ»(2)فكان عليهالسلام متّبعا للّه مؤدّيا عن اللّه ما أمره به من تبليغ الرسالة.
قلت: فإنّه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ممّا ليس فيالكتاب وهو في السنّة ثمّ يرد خلافه، فقال: كذلك قد نهى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عنأشياء نهي حرام، فوافق في ذلك نهيه نهي اللّه، وأمر بأشياء، فصار ذلك الأمرواجبا لازما كعدل فرائض اللّه، فوافق في ذلك أمره أمر اللّه، فما جاء في النهيعن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله نهي حرام ثمّ جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيمأمر به، لأنّا لا نرخّص فيما لم يرخّص فيه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ولا نأمر بخلاف ما أمربه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلاّ لعلّة خوف ضرورة، فأمّا أن نستحلّ ما حرّم رسولاللّه صلىاللهعليهوآله أو نحرّم ما استحلّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فلا يكون ذلك أبداً، لأنّا تابعونلرسول اللّه صلىاللهعليهوآله مسلّمون له كما كان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله تابعا لأمر ربّه مسلّما له،وقال اللّه عزّوجلّ: «مَآ ءَاتَـلـكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَـلـكُمْ عَنْهُ
- (1) أي وضعها. منه مدّ ظلّه.