ج6
بأسانيدهم عن عمر بن حنظلة.
البحث حول سند المقبولة
وسند الكليني إليه هكذا: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّدبن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحسين،عن عمر بن حنظلة.
ولا إشكال في هذا السند إلاّ في عمر بن حنظلة، فإنّه مجهول، لعدم ورودقدح ولا مدح فيه.
والمشهور وإن عملوا بروايته هذه حتّى اشتهرت بالمقبولة، إلاّ أنّ انجبارضعف السند بالشهرة لا دليل عليه إلاّ نفس المقبولة، فلا يمكن جبر سندهبالشهرة الذي(1) دليله نفسها(2)، لأنّه دور.
نعم، لو جبر ضعف سندها بطريق آخر لأمكن الاعتماد عليها في انجبارضعف سند سائر الأخبار بالشهرة.
إن قلت: وإن لم يجبر ضعف سندها بتلقّى الأصحاب إيّاها بالقبول، إلاّ أنّصفوان بن يحيى من أصحاب الإجماع، فروايته عن عمر بن حنظلة دليل علىكونه ثقة.
قلت: لا يكون نقل أصحاب الإجماع موجبا لانجبار السند، فإنّ روايتهمعن شخص لا تدلّ على وثاقته عندنا، وإن اشتهر ذلك في الكلمات.
والذي يهوّن الخطب أنّ اثنين وعشرين رجلاً يروون في الأبواب المختلفةعن عمر بن حنظلة وكان هو اُستاذهم في الرواية مع أنّ تسعة عشر بل
- (1) تذكير الموصول لأجل كونه صفةً لـ «جبر» لا لـ «الشهرة». م ح ـ ى.
- (2) الضمير يعود إلى «المقبولة». م ح ـ ى.
(صفحه482)
عشرين منهم من الثقات الأجلاّء، بل بعضهم من أصحاب الإجماع، وروايةأشخاص كثيرة ثقات عن شخص واحد موجبة للاطمئنان بكونه ثقة وإن لميذكر في كتب الرجال بمدح ولا قدح كما قال به سيّدنا الاُستاذ آية اللّهالبروجردي نحرير فنّ الرجال في المتأخّرين.
على أنّه نقل(1) عن النجاشي أنّه قال بكون عمر بن حنظلة ثقةً.
أضف إلى ذلك أنّ الصدوق ـ الذي روى المقبولة في «من لا يحضرهالفقيه» ـ قال في مقدّمة هذا الكتاب: قصدت إيراد ما اُفتي به وأحكم بصحّتهوأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي(2).
فعلى هذا لو عبّرنا عن الرواية بموثّقة عمر بن حنظلة بل بصحيحته مكانالمقبولة لم يكن جزافا.
فلا ينبغي الإشكال في سندها.
البحث حول متن المقبولة
وأمّا متنها: فعن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللّه عليهالسلام عن رجلين منأصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاةأيحلّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت،وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا، وإن كان حقّا ثابتا له، لأنّه أخذه بحكمالطاغوت، وقد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوآاْ إِلَىالطَّـغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِى»(3).
- (1) إنّي لم اُلاحظ رجال النجاشي لإثبات صحّة هذا النقل وسقمه. منه مدّ ظلّه. أقول: أنا لا حظته ولم أجد فيهشيئاً يدلّ على صحّة هذا النقل. م ح ـ ى.
- (2) من لا يحضره الفقيه 1: 3.
ج6
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] من كان منكم ممّن قد روىحديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قدجعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّهوعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه.
قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونالناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم(1)؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما،ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما علىالآخر؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما بهالمجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليسبمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمربيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلىرسوله، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن تركالشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلكمن حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكما(2) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ بهويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.
- (1) هل المراد بالاختلاف في الحديث: الاختلاف في أصل وجوده، أو في معناه، أو أنّ كلاًّ منهما استند فيحكمه إلى حديث غير ما استند إليه الآخر؟ الظاهر هو الأخير. منه مدّ ظلّه.
- (2) قال المجلسي رحمهالله : قوله عليهالسلام : «عنكما» أي الباقر والصادق عليهماالسلام ، وفي الفقيه: «عنكم» وهو أظهر. مرآةالعقول 1: 225، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
(صفحه484)
قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّةووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذبالآخر.
قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟
قال: إذا كان ذلك فأرجه(1) حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهاتخيرٌ من الاقتحام في الهلكات»(2).
أقول: لا إشكال في أنّ صدر هذه الرواية ظاهر بل صريح في كون السؤالعن الشبهة الموضوعيّة، مثل تنازع زيد وعمرو بأن يقول زيد لعمرو: «إنّ ليعليك مأة درهم» وهو ينكره، ومثل أن يتنازعا في ميراث، فقال زيد: «هولي» وقال عمرو: «بل هو لي».
ولا يصحّ القول بأنّ السؤال عن الشبهة الحكميّة، لأنّ المرجع فيها هوالفقيه، لا السلطان أو القاضي، سيّما أنّ الراوي فرض الرجلين المتنازعين منالأصحاب، إذ عدم صحّة رجوعهما إلى السلطان الجائر أو إلى القاضيالمنصوب من قبله لأخذ الحكم الكلّي معلوم، فلا مورد لسؤاله عن حلّيّة
- (1) قال المجلسي رحمهالله : قوله عليهالسلام : «فأرجه»: بكسر الجيم والهاء، من «أرجيت الأمر» بالياء أو من «أرجأتالأمر» بالهمزة، وكلاهما بمعنى «أخّرته» فعلى الأوّل حذفت الياء في الأمر، وعلى الثاني اُبدلت الهمزةياءً ثمّ حذفت، و«الهاء» ضمير راجع إلى الأخذ بأحد الخبرين. مرآة العقول 1: 226، كتاب فضل العلم،باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
- (2) الكافي 1:67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10، ومن لا يحضره الفقيه 3: 8 ، أبوابالقضايا والأحكام، باب الاتّفاق على عدلين في الحكومة، الحديث 3233، وتهذيب الأحكام 6: 262،كتاب القضايا والأحكام، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، الحديث 52، ووسائل الشيعة 27: 106،كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
ج6
رجوعهما إليهما لأخذ الفتوى والحكم الشرعي الكلّي منهما.
كلام المحقّق الرشتي رحمهالله في مدلول المقبولة
لكن ذهب الميرزا حبيب اللّه الرشتي رحمهالله إلى كون الرواية واردةً مورد الشبهةالحكميّة ولا ربط لها بالقضاء، لأنّ اختيار كلّ من المتخاصمين رجلاً منالأصحاب لأجل القضاوة لا يمكن إلاّ على وجوه ثلاثة: أحدهما: أن يحكممعا ويقولا: حكمنا بهذا، الثاني: أن يكون الحَكَم أحدهما ولكنّ الآخر يعينهفي مقدّمات الحكم، فالأوّل يشاور الثاني ثمّ يحكم، الثالث: أن يكون أحدهمحاكما والآخر منفّذا للحكم، فيقول الأوّل: حكمت بكذا، والثاني: أنفذت هذالحكم، وكلّها خلاف ظاهر الرواية، فإنّ ظاهرها اختيار كلّ من المتنازعينحاكما ليكون مستقلاًّ في القضاء، وهذا غير معقول، لعدم رفع الخصومة به.
فلابدّ من حمل الحكم في الرواية على معناه اللغوي، وهو الفتوى،كما في قوله تعالى: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـآلـءِكَ هُمُالْفَـسِقُونَ»(1) أي من لم يفت بما أنزل اللّه.
فحاصل مضمون الرواية أنّ كلّ واحد من الرجلين اختار رجلاً منالمجتهدين ليفتي فيما وقع بينهما الاختلاف من حكم اللّه تعالى، وحيث إنّ الإفتاءكان في ذلك الزمان بالروايات ذكر كلّ منهما في مقام الفتوى روايةً مخالفةًللرواية التي ذكرها الآخر.
ثمّ ذكر قرينةً اُخرى على كون الرواية مربوطة بالشبهة الحكميّة، وهيقوله عليهالسلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهم إلخ» فإنّ المتنازعين لا صلاحيّة(2)، بل
- (2) لكونهما من العوامّ غالبا، ولا تتمكّن العوامّ من النظر حول الروايات. منه مدّ ظلّه.