ج6
بالزمان الحاضر، ولأجل ذلك الإشكال ذهب المحقّق الهمداني رحمهالله إلىتقدير يقينآخر، والمحقّق النائيني رحمهالله في تقريبه الثاني إلى كون زمان الشكّ ممّا تعلّق بهاليقين في زمان حدوثه.
والجواب عنه بعد عدم تماميّة ما ذكره العَلَمان رحمهماالله أنّ الاحتمالات المتصوّرةللرواية في بادئ النظر ثلاثة:
أ ـ أن يكون وجود اليقين والشكّ فعليّاً وكلاهما متعلّقين بشيء واحد منجميع الجهات حتّى من حيث الزمان، وهذا ممتنع كما هو واضح.
ب ـ أن يُراد من الرواية قاعدة اليقين، وهي أن يكون اليقين والشكّ كلاهممتعلّقين بشيء واحد حتّى من حيث الزمان، إلاّ أنّ الشكّ فعلي دون اليقين،فإنّ المكلّف في هذه القاعدة كان متيقّناً سابقاً بكونه متطهّراً مثلاً ولكنّه يشكّالآن في تلك الطهارة السابقة، وهذا الاحتمال خلاف الظاهر، لأنّ قوله عليهالسلام : «لينقض اليقين أبداً بالشكّ» ظاهر في كون اليقين أيضاً فعليّاً، كالشكّ، فمفاده «لينقض اليقين الموجود بالفعل بالشكّ الموجود كذلك»، على أنّه لا يلائم موردالرواية أيضاً، لأنّ موردها هو اليقين بالوضوء والشكّ في ارتفاعه لأجلاحتمال النوم، واحتمال النوم ناشٍ عن تحريك شيء في جنبه وهو لا يعلم به.
ج ـ أن يكون وجود اليقين والشكّ فعليّاً، إلاّ أنّ متعلّقهما مختلف من حيثالزمان، بأن كان اليقين متعلّقاً بالحالة السابقة والشكّ متعلّقاً بالحالة الفعليّة،وهذا الاحتمال ـ ولو كان خلاف الظاهر ـ متعيّن، لأنّه احتمال ممكن أقلّإشكالاً، فإنّ الاحتمال الأوّل كان محالاً، والثاني كان ذا إشكالين ـ كما عرفت ولا احتمال رابع في البين، فتعيّن الاحتمال الثالث، وإن كان خلاف الظاهر فرضاً.
هل الاستصحاب حجّة من باب بناء العقلاء؟
(صفحه62)
ثمّ إنّه قد استدلّ أيضاً للقول باختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع:بأنّ أخبار الاستصحاب لا تكون تعبّداً محضاً، بل وردت على طبق ارتكازالعقلاء وبنائهم على العمل على طبق الحالة السابقة، ولا إشكال في اختصاصبنائهم على العمل على طبقها في الشكّ في الرافع دون المقتضي.
والشاهد على ورودها إمضاءً لبنائهم قوله عليهالسلام في الصحيحة الثانية الآتية(1):«فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» فإنّ هذا التعبير يدلّ علىإرجاعه إلى ارتكازه، لا أنّه حكم تعبّدي محض.
أقول: لا ريب في بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة فيالجملة، ولا ريب أيضاً في تحقّق هذا البناء في الشكّ في الرافع، وأمّا بنائهم علىالعمل بها في الشكّ في المقتضي إمّا مقطوع العدم وإمّا مشكوك فيه، فالمتيقّنمن بنائهم هو خصوص موارد الشكّ في الرافع.
ولكنّ الوجه في حكم الشارع بالعمل على طبق الحالة السابقة بقوله: «لينقض اليقين أبداً بالشكّ» هو مجرّد اليقين بها والشكّ في الحالة اللاحقة، لأنّهجعل نقض اليقين بالشكّ موضوعاً لحكمه من غير دخالة شيء آخر، فيشملالأخبار كلّ مورد تحقّق فيه اليقين بالحالة السابقة والشكّ في الحالة اللاحقة،سواء حصل الوثوق ببقاء المتيقّن أم لا، بل يشمل ما إذا حصل الظنّ غيرالمعتبر بارتفاعه، والعلم بالحالة السابقة غير كاشف عن الحالة اللاحقة، لكشفاً تامّاً ولا ناقصاً يعبّر عنه بالوثوق أو الظنّ.
وأمّا بناء العقلاء فالظاهر أنّ وجهه حصول الوثوق والاطمئنان لهمبالبقاء، لا تعبّد عقلائي، إذ لم نجدهم يعملون على طبق الحالة السابقة في موردلا يكون في البين إلاّ اليقين بالكون السابق والشكّ في البقاء بحيث لا يحصل
ج6
لهم وثوق واطمئنان ولا يكون عملهم مطابقاً للاحتياط، بل رجوعالحيوانات إلى أوكارها لا يكون إلاّ من جهة حصول الوثوق بالبقاء.
وبالجملة: الظاهر أنّ بناء العقلاء لا يكون إلاّ لحصول الوثوق والاطمئنانلهم.
منشأ وثوق العقلاء ببقاء الحالة السابقة
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في ذلك
ثمّ إنّه قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه»: حصول الوثوق بالبقاء ناشٍعن ندرة حصول الرافع للشيء الثابت المقتضي للبقاء، نظير أصالة السلامة فيالثمن والمبيع الناشئة عن ندرة حصول العيب في الأشياء، فإنّها أصل عقلائييحصل الوثوق للعقلاء على طبقه، وحصول هذا الوثوق ناشٍ عن ندرةحصول العيب في الأشياء وغلبة سلامتها(1).
نقد كلام الإمام«مدّ ظلّه» في المقام
لكنّه مخدوش عندنا، لأنّ الشكّ في الرافع ليس بمعنى بقاء المستصحبواستمراره واقعاً، بل بمعنى قابليّته للبقاء والاستمرار، وحصول الرافع له ليسنادراً في جميع الموارد، ألا ترى كثرة حصول الرافع لبعض الأشياء الثابتةالمقتضية للبقاء، كالطهارة، فإنّها مقتضية للبقاء إلى الأبد، مع أنّها كثيراً متنقض وترفع بالبول والنوم والريح وسائر النواقض.
نعم، بعض الاُمور الثابتة المقتضية للبقاء والاستمرار لا يعرضه الرافع إل
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 95.
(صفحه64)
نادراً، كالبناء المحكم القويّ الذي لا يُخرّبه إلاّ زلزال شديد أو سيل عظيم.
وبالجملة: قوله«مدّ ظلّه»: «حصول الوثوق بالبقاء لهم ناشٍ عن ندرة حصولالرافع للشيء الثابت المقتضي للبقاء» غير تامّ.
وكيف كان، بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة لا يكون إللأجل حصول الوثوق والاطمئنان لهم بالبقاء، بخلاف حكم الشارع بحرمةنقض اليقين بالشكّ، فإنّ ملاكه نفس اليقين والشكّ من غير دخل شيء آخرفيه، فإذا اختلف المناطان فدعوى ورود أخبار الباب على طبق ارتكازالعقلاء غير مسموعة.
توضيح «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»
وأمّا التعبير بـ «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» كما ورد فيالصحيحة الثانية الآتية فلا يدلّ على إرجاعه إلى ارتكاز الراوي(1)، لعدم دلالةالتعبير بـ «لا ينبغي» على الكراهة في لسان الشرع، بل يدلّ على الحرمة.
ويؤيّده ورود هذا التعبير في سائر الأخبار لأجل بيان حكم تحريميلا تنزيهي، بل وروده في نفس تلك الصحيحة ـ مع قطع النظر عن سائرالروايات ـ يقتضي أن يكون لبيان الحرمة، لأنّ موردها هو الصلاة الواجبة،
- (1) ضرورة أنّ عدم نقض اليقين بالشكّ في مثل الوضوء مع حصول مقدّمات النوم كالخفقة والخفقتينوتحريك شيء إلى جنبه مع عدم التفاته إليه، وفي مثل الظنّ بإصابة دم الرعاف فيمن حصل له الرعاف،ليس ارتكازيّاً للعقلاء، لأنّهم في مثل تلك الموارد التي تكون في مظانّ حصول منافيات الحالة السابقةيتفحّصون عنها، كما ترى أنّ في الصحيحة الثانية يقول: «فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن فنظرت فلم أرَشيئاً» فلم يكتف بالحالة السابقة حتّى نظر إليه فصلّى، مضافاً إلى أنّ هذا التعبير كثيراً ما وقع في الأخبارفيما لا يكون على طبقه ارتكاز كما يظهر بالتتبّع فيها، مع أنّك قد عرفت أنّ العمل على طبق اليقينالمتعلّق بحالة مع انقلابه إلى الشكّ في حالة اُخرى لا يكون ارتكازيّاً، والحال أنّ مفاد الروايات هو أن لينقض اليقين بالشكّ من حيث ذاتهما من غير أن يحصل وثوق أو اطمئنان على البقاء. هذا ما أفاده الإمامالخميني«مدّ ظلّه» في الرسائل، مبحث الاستصحاب: 95.
ج6
فلا فرق بين التعبير بقوله: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» وبينالتعبير في الصحيحة الاُولى بقوله: «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» أصلاً.
وبالجملة: دعوى أنّ نكتة اعتبار الاستصحاب هي مطابقته لارتكازالعقلاء غير مسموعة، فمفاد أخبار الباب أعمّ من الشكّ في الرافع والمقتضي،ومخالف لما هو سيرة العقلاء، لأنّ مناط الأخبار أعمّ من مناط السيرة ومخالفله، فتقريب اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع بورود أخباره على طبقبناء العقلاء مردود.
هل الاستصحاب أمارة شرعيّة أو أصل عملي؟
واتّضح ممّا ذكرنا عدم كون الاستصحاب أمارة مجعولة شرعيّة، بل هوأصل عملي مجعول شرعي، لأنّ ملاك حرمة النقض في الرواية هو مجرّد اليقينبالحالة السابقة والشكّ في الحالة اللاحقة كما عرفت، فدعوى كونه أمارة إمّأن تكون بلحاظ كون اليقين كاشفاً عن زمان الشكّ، وهي غير مسموعة، لأنّاليقين كاشف عن الحالة السابقة لا عن زمان الشكّ، لأنّه تعلّق بها لا به، فليكون كاشفاً عنه حتّى كشفاً ناقصاً، وإمّا أن تكون بلحاظ الشكّ لأجل كونهمسبوقاً باليقين، وهي أيضاً فاسدة، لأنّ مسبوقيّته باليقين لا تستلزم كونهموجباً لتحقّق الظنّ بالبقاء.
وبعبارة اُخرى: كلّما تحقّق اليقين بالحالة السابقة والشكّ بالحالة اللاحقةيجري الاستصحاب بحسب مدلول الرواية، فلا يختصّ جريانه بالظنّ النوعيبالبقاء، بل يعمّ الشكّ المتساوي الطرفين، بل الظنّ بالارتفاع، لأنّ الشكّ يكونبمعنى عدم اليقين لا بمعناه المصطلح، فكيف يكون أمارةً شرعيّة كاشفةً عنالواقع؟