(صفحه64)
نادراً، كالبناء المحكم القويّ الذي لا يُخرّبه إلاّ زلزال شديد أو سيل عظيم.
وبالجملة: قوله«مدّ ظلّه»: «حصول الوثوق بالبقاء لهم ناشٍ عن ندرة حصولالرافع للشيء الثابت المقتضي للبقاء» غير تامّ.
وكيف كان، بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة لا يكون إللأجل حصول الوثوق والاطمئنان لهم بالبقاء، بخلاف حكم الشارع بحرمةنقض اليقين بالشكّ، فإنّ ملاكه نفس اليقين والشكّ من غير دخل شيء آخرفيه، فإذا اختلف المناطان فدعوى ورود أخبار الباب على طبق ارتكازالعقلاء غير مسموعة.
توضيح «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»
وأمّا التعبير بـ «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» كما ورد فيالصحيحة الثانية الآتية فلا يدلّ على إرجاعه إلى ارتكاز الراوي(1)، لعدم دلالةالتعبير بـ «لا ينبغي» على الكراهة في لسان الشرع، بل يدلّ على الحرمة.
ويؤيّده ورود هذا التعبير في سائر الأخبار لأجل بيان حكم تحريميلا تنزيهي، بل وروده في نفس تلك الصحيحة ـ مع قطع النظر عن سائرالروايات ـ يقتضي أن يكون لبيان الحرمة، لأنّ موردها هو الصلاة الواجبة،
- (1) ضرورة أنّ عدم نقض اليقين بالشكّ في مثل الوضوء مع حصول مقدّمات النوم كالخفقة والخفقتينوتحريك شيء إلى جنبه مع عدم التفاته إليه، وفي مثل الظنّ بإصابة دم الرعاف فيمن حصل له الرعاف،ليس ارتكازيّاً للعقلاء، لأنّهم في مثل تلك الموارد التي تكون في مظانّ حصول منافيات الحالة السابقةيتفحّصون عنها، كما ترى أنّ في الصحيحة الثانية يقول: «فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن فنظرت فلم أرَشيئاً» فلم يكتف بالحالة السابقة حتّى نظر إليه فصلّى، مضافاً إلى أنّ هذا التعبير كثيراً ما وقع في الأخبارفيما لا يكون على طبقه ارتكاز كما يظهر بالتتبّع فيها، مع أنّك قد عرفت أنّ العمل على طبق اليقينالمتعلّق بحالة مع انقلابه إلى الشكّ في حالة اُخرى لا يكون ارتكازيّاً، والحال أنّ مفاد الروايات هو أن لينقض اليقين بالشكّ من حيث ذاتهما من غير أن يحصل وثوق أو اطمئنان على البقاء. هذا ما أفاده الإمامالخميني«مدّ ظلّه» في الرسائل، مبحث الاستصحاب: 95.
ج6
فلا فرق بين التعبير بقوله: «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» وبينالتعبير في الصحيحة الاُولى بقوله: «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» أصلاً.
وبالجملة: دعوى أنّ نكتة اعتبار الاستصحاب هي مطابقته لارتكازالعقلاء غير مسموعة، فمفاد أخبار الباب أعمّ من الشكّ في الرافع والمقتضي،ومخالف لما هو سيرة العقلاء، لأنّ مناط الأخبار أعمّ من مناط السيرة ومخالفله، فتقريب اختصاص الاستصحاب بالشكّ في الرافع بورود أخباره على طبقبناء العقلاء مردود.
هل الاستصحاب أمارة شرعيّة أو أصل عملي؟
واتّضح ممّا ذكرنا عدم كون الاستصحاب أمارة مجعولة شرعيّة، بل هوأصل عملي مجعول شرعي، لأنّ ملاك حرمة النقض في الرواية هو مجرّد اليقينبالحالة السابقة والشكّ في الحالة اللاحقة كما عرفت، فدعوى كونه أمارة إمّأن تكون بلحاظ كون اليقين كاشفاً عن زمان الشكّ، وهي غير مسموعة، لأنّاليقين كاشف عن الحالة السابقة لا عن زمان الشكّ، لأنّه تعلّق بها لا به، فليكون كاشفاً عنه حتّى كشفاً ناقصاً، وإمّا أن تكون بلحاظ الشكّ لأجل كونهمسبوقاً باليقين، وهي أيضاً فاسدة، لأنّ مسبوقيّته باليقين لا تستلزم كونهموجباً لتحقّق الظنّ بالبقاء.
وبعبارة اُخرى: كلّما تحقّق اليقين بالحالة السابقة والشكّ بالحالة اللاحقةيجري الاستصحاب بحسب مدلول الرواية، فلا يختصّ جريانه بالظنّ النوعيبالبقاء، بل يعمّ الشكّ المتساوي الطرفين، بل الظنّ بالارتفاع، لأنّ الشكّ يكونبمعنى عدم اليقين لا بمعناه المصطلح، فكيف يكون أمارةً شرعيّة كاشفةً عنالواقع؟
(صفحه66)
لا يقال: ما الفرق بين أدلّة حجّيّة الخبر الواحد وأخبار الاستصحاب حيثذهبتم إلى كون الخبر الواحد أمارةً وإلى كون الاستصحاب أصلاً؟
فإنّه يقال: الفرق بينهما أنّ أدلّة حجّيّة الخبر الواحد ناظرة إلى بناء العقلاءعلى العمل بخبر العادل والثقة، بل دليله منحصر ـ على التحقيق ـ في بناءالعقلاء، وهم لا يعملون بخبر الثقة إلاّ لأجل حصول الوثوق والاطمئنان لهم،فخبر الثقة حجّة من باب الظنّ النوعي، بخلاف الاستصحاب، فإنّ الأخبارالدالّة على حجّيّته لا تكون مرتبطة بسيرة العقلاء كما عرفت، فوزان قوله عليهالسلام :«لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» وزان قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّهقذر» فكما أنّ الثاني وظيفة مقرّرة للشاكّ في الطهارة في مقام العمل، فكذلكالأوّل وظيفة مقرّرة للشاكّ في بقاء المتيقّن في مقام العمل، إلاّ أنّ الشكّ فيهيكون مسبوقاً باليقين، دون الثاني.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا حول الرواية أنّ الاستصحاب حجّة فيجميع أبواب الفقه بإلغاء الخصوصيّة، وأنّه حجّة في الشكّ فيالرافع والمقتضي كليهما، وأنّه أصل لا أمارة، فلا يكون معنى حجّيّته عندنأنّه أمارة كاشفة عن الواقع، بل معناها أنّه وظيفة عمليّة تعبّديّة عند الشكّفي البقاء.
وهذه الصحيحة كافية لاعتبار الاستصحاب وحجّيّته، إلاّ أنّا نذكرسائر أخبار الباب، لأنّ من ناقش في إلغاء الخصوصيّة وقال باختصاصقوله عليهالسلام : «لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ» بباب الوضوء يتمكّن من تعميمالاستصحاب لسائر الأبواب، فإنّ مورد الأخبار الاُخر غير الوضوء كمستعرف.
ج6
صحيحة زرارة الثانية
ومنها: ما رواه الشيخ أيضاً بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عنحريز، عن زرارة قال: قلت له(1): أصاب ثوبي دم رعاف(2) أو غيره(3) أوشيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاةونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك، قال: «تعيد الصلاةوتغسله» قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلمأقدر عليه، فلمّا صلّيت(4) وجدته، قال: «تغسله وتعيد»، قلت: فإن ظننت أنّهقد أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه، قال:«تغسله ولا تعيد الصلاة»، قلت: لِمَ ذلك؟ قال: «لأنّك كنت على يقين منطهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً» قلت: فإنّيقد علمت أنّه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فأغسله، قال: «تغسل من ثوبكالناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك» قلت:فهل عليَّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: «لا، ولكنّك إنّم
- (1) ليس في التهذيب والاستبصار كلمة «له». م ح ـ ى.
- (2) الرعاف: الدم الذي يخرج من الأنف. م ح ـ ى.
(3) كلمة «غيره» معطوفة على «رعاف» لا على «دم». منه مدّ ظلّه.
- (4) الظاهر أنّه صلّى فيه مع نسيانه النجاسة، لا مع علمه الإجمالي بها، لأنّ الجهل ببطلان الصلاة في الثوبالنجس بعيد عن مثل زرارة، على أنّ قوله في السؤال الأوّل: «علّمت أثره إلى أن اُصيب له الماء» دليل علىكونه عالماً ببطلان الصلاة في الثوب النجس. منه مدّ ظلّه.
(صفحه68)
تريد أن تُذهب الشكّ الذي وقع في نفسك» قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا فيالصلاة، قال: «تنقض الصلاة وتُعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته، وإن لمتشكّ ثمّ رأيته رطباً فقطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة، لأنّك لتدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ»(1).
وهذه الرواية وإن كانت مضمرة، إلاّ أنّ إضمار مثل زرارة لا يضرّ، لأنّه ليسأل غير الإمام المعصوم، على أنّ الصدوق رحمهالله رواها في «العلل» متّصلاً بأبيجعفر عليهالسلام ، فلا إشكال فيها من حيث اتّصالها بالمعصوم.
البحث حول دلالة الرواية
وأمّا دلالتها: فلا إشكال في عدم دلالة الفقرتين الاُوليين على الاستصحاب،بل مورد الاستدلال بها فقرتان:
إحداهما: الفقرة الثالثة، وهي قوله: «فإن ظننت أنّه قد أصابه ـ إلىقوله عليهالسلام ـ فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً».
وفي هذه الفقرة احتمالات؛ لأنّ في قوله: «فنظرت فلم أرَ شيئاً» احتمالين:أحدهما: أنّه بعد النظر وعدم رؤية شيء صار عالماً بعدم كون الثوب نجساً،ثانيهما: أنّه بقي شكّه بإصابة النجاسة ولم يتبدّل شكّه بسبب النظر وعدمالرؤية إلى العلم بعدم الإصابة، وفي قوله: «ثمّ صلّيت فرأيت فيه» أيضاحتمالان: أحدهما: أنّه تيقّن بكونه هو النجاسة التي ظنّ بها قبل الصلاة،فتيقّن وقوع الصلاة فيها، ثانيهما: أنّه شكّ في أنّها هل وقعت على الثوب بعدالصلاة أو هي التي كانت قبلها وظنّ بها، فالاحتمالات أربعة حاصلة من
- (1) تهذيب الأحكام 1: 432، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب تطهير البدن والثياب من النجاسات،الحديث 8 ، والاستبصار 1: 292، كتاب الطهارة، الباب 109 من أبواب الرجل يصلّي في ثوب فيه نجاسةقبل أن يعلم، الحديث 13.