ج6
قلت: الشكّ وإن كان مساوياً بالنسبة إلى طرفي الاحتمال، إلاّ أنّ الطرفالذي يوجب تغيير الوضع الموجود يكون متعلّقاً له في التعبيرات لا الطرفالآخر، مثلاً إذا كان ثوبك طاهراً ثمّ عرض لك الشكّ، تقول: «شككت فينجاسة ثوبي» ولا تقول: «شككت في طهارته»، نعم، هذا التعبير صحيح لكنّهغير متعارف نوعاً.
إذا عرفت ذلك فظهر لك أنّ قوله عليهالسلام : «إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته»يكون بمعنى «إذا شككت في نجاسة موضع منه ثمّ رأيته» فكان قوله: «إن لمتشكّ» أيضاً بمعنى «إن لم تشكّ في نجاسته» بقرينة المقابلة، فحينئذٍ لو كان عدمالشكّ عبارة اُخرى عن اليقين ـ كما قلت ـ لكان المعنى «إن تيقّنت بالنجاسة»لا «إن تيقّنت بالطهارة» وعلى هذا المعنى فلم يكن دخوله في الصلاة جائزأصلاً، فكيف يحكم عليهالسلام بصحّة ما مضى من صلاته مع أنّه دخل فيها عالمبكون ثوبه نجساً؟!
فالمراد من عدم الشكّ هو الغفلة عن طهارة ثوبه ونجاسته، يعني أنّه كانعالماً بطهارته قبل الدخول في الصلاة، إلاّ أنّه حال الدخول صار غافلاً عنالطهارة والنجاسة، ثمّ رأى نجاسة رطبة في أثنائها وشكّ في الإصابة قبلالصلاة أو في الأثناء، فعلى هذا لا إشكال في انطباق قوله عليهالسلام : «فليس ينبغيأن تنقض اليقين بالشكّ» على الاستصحاب.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه إلى الآن ظهور فقرتين من الرواية في حجّيّةالاستصحاب.
إشكال وجواب
لكن يتوجّه إشكال على الفقرة الاُولى، وهو أنّه كيف يصحّ تعليل عدم
(صفحه72)
وجوب إعادة الصلاة بعد العلم بوقوعها في النجس بقوله: «لأنّك كنت علىيقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»مع كون الإعادة من النقض باليقين لا بالشكّ.
نعم، التعليل المذكور يصلح أن يكون تعليلاً لجواز الدخول في الصلاة، للعدم وجوب الإعادة.
ويمكن الجواب عن هذا الإشكال بعد ذكر مقدّمة:
وهي أنّ قوله عليهالسلام : «لا تعيد الصلاة» اُريد منه معنى كنائي لا معناه المطابقي،أعني «لا تجب عليك إعادة الصلاة».
توضيح ذلك: أنّ لزوم الإعادة وعدمه ممّا حكم به العقل، فلو رأى المأتيّ بهمطابقاً للمأمور به حكم بعدم لزوم الإعادة، ولو رآه غير مطابق له حكمبلزومها، وأمّا الشارع فليس له حكم سوى ما تعلّق بالمأمور به، وإلاّ لزم أنيتوجّه إلى المكلّف حكمان شرعيّان فيما إذا لم يطابق المأتيّ به المأمور به،أحدهما: «أقم الصلاة» مثلاً، والآخر: «يجب عليك الإعادة»، فكلّما عبّرالشارع بقوله: «يعيد» أو «لا يعيد» لم يكن معناه المطابقي مراداً، بل معناهالكنائي، فقوله عليهالسلام في الفقرتين الاُوليين: «تعيد الصلاة» كناية عن اشتراطالصلاة بطهارة الثوب.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ أدلّة الشرائط والموانع ظاهرة في كون الشيءبوجودها الواقعي شرطاً أو مانعاً، فما دلّ على وجوب الصلاة في الثوبالطاهر ظاهر في كون الطهارة الواقعيّة شرطاً لها، فزرارة رأى أنّ المأتيّ به فيالفرض الثالث أيضاً غير مطابق للمأمور به ـ كالأوّلين ـ فالقاعدة تقتضي لزومالإعادة، مع أنّ الإمام عليهالسلام حكم بعدم لزومها، فسأل عن علّة ذلك بقوله: «ولِمَذلك؟»، وحاصل جواب الإمام عليهالسلام أنّ الطهارة التي تكون شرطاً للصلاة أعمّ
ج6
من الطهارة الواقعيّة والاستصحابيّة.
وبعبارة اُخرى: قوله: «لا تعيد الصلاة» كناية عن أنّ الصلاة التي أتيت بهمطابقة للمأمور بها، لأنّ الطهارة التي تكون شرطاً لها تعمّ الطهارة الواقعيّةوالاستصحابيّة، فهذا حاكم على أدلّة اشتراط طهارة الثوب في الصلاةبتوسعتها، كما أنّ قاعدة الطهارة المستفادة من قوله: «كلّ شيء طاهر حتّىتعلم أنّه قذر» حاكم عليها وموسّع لدائرتها بأنّ الطهارة في أدلّة اشتراطها أعمّمن الطهارة الواقعيّة والظاهريّة.
إشكال آخر وجواب
ثمّ إنّ في الرواية إشكالاً ثانياً، وهو لزوم التفرقة بين وقوع تمام الصلاة فيالثوب النجس وبين وقوع بعضها فيه، حيث حكم في الأوّل بعدم لزومالإعادة وفي الثاني بلزومها، كما هو ظاهر قوله بعد ذلك: «تنقض الصلاة وتعيدإذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته»، فما وجه هذا الفرق؟ مع أنّ الثاني أولىبعدم الإعادة، لأنّه عليه وقع بعض الصلاة في الثوب النجس، وعلى الأوّلجميعها.
هل يمكن الجواب بأنّ وجوب الإعادة في الثاني تعبّد محض؟
أقول: لا، لأنّ الرواية وردت بلسان بيان العلّة والدليل كما هو واضح، علىأنّ عدم سؤال زرارة هاهنا عن العلّة مع أنّه كان سأل عنها في الفقرة السابقةمشعر بأنّ الحكم بالإعادة هاهنا مطابق للقاعدة، فالعلّة كانت معلومة عنده،ولو كان تعبّداً محضاً ومخالفاً للقاعدة لسأل عن العلّة وأجاب الإمام عليهالسلام بكونهتعبّداً غير معلول بعلّة.
لكن يمكن الذبّ عن الإشكال بعد ذكر مقدّمتين:
(صفحه74)
أ ـ أنّ النجاسة مانعة للصلاة مطلقاً ـ أي في حال الذكر والسكوت والقياموالقعود وسائر الأحوال ـ فلو حمل المصلّي في الأثناء ثوباً نجساً حال كونهساكتاً، بحيث لم يأت بكلمة من الصلاة فيه بطلت، لأجل المانعيّة المطلقة.
ب ـ أنّ لنا أخباراً(1) دالّة على أنّ المصلّي لو رَعَفَ(2) في الأثناء لا تبطلصلاته، بل عليه أن يغسل أنفه ويعوّض ثوبه المتنجّس بالرعاف أو يغسلهويبني على صلاته لو لم يستلزم الغسل أو التعويض الاستدبار أو الفعل الكثير.
والرعاف له خصوصيّتان: إحداهما: أنّه يخرج بلا اختيار، ثانيتهما: أنّه إذحدث في أثناء الصلاة نعلم به في بدء حدوثه، فنعلم أنّ شيئاً من الصلاة لم يقعمعه، ومورد الأخبار وإن كان دم الرعاف، لكنّا نتمكّن من إلغاء الخصوصيّةوالتمسّك بها لإثبات عدم بطلان الصلاة إذا تنجّس ثوب المصلّي أو بدنه فيالأثناء بنجاسة غير الرعاف إذا كانت مشتملة على الخصوصيّتين، وهما:التنجّس بلا اختيار، وعدم وقوع شيء من الصلاة فيه، كأن يمسّ الطفل بيدهالنجسة ثوب المصلّي والتفت قبل إتيان شيء من الصلاة في الثوب النجس.
فهذه الأخبار تكون مخصّصةً لدليل مانعيّة النجاسة للصلاة، فكان حاصلدليل المانعيّة بملاحظة هذه الأخبار أنّ النجاسة مانعة للصلاة، إلاّ إذا حدثتفي أثنائها بحيث لم يقع شيء من الصلاة فيها وكان حدوثها بلا اختيار.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين، فاعلم أنّ الفرق بين حصول العلم بعد الصلاةبوقوعها في النجاسة وبين حصوله في الأثناء أنّ الصلاة في الأوّل تمامها وقع فيالطهارة الاستصحابيّة، لأنّه كان شاكّاً في إصابة النجاسة من أوّل الصلاة إلىآخرها، فيجري الاستصحاب في جميع ذلك الوقت، بخلاف الثاني، فإنّ
- (1) راجع وسائل الشيعة 7: 238، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة.
- (2) رَعَفَ الرجل: خرج الدم من أنفه. م ح ـ ى.
ج6
الاستصحاب فيه لا يجري إلاّ في خصوص ما مضى من الصلاة قبل العلمبالنجاسة، وأمّا حال العلم فلا يكون مجرى استصحاب الطهارة كما هو واضح،ولا يكون أيضاً من مصاديق أخبار الرعاف، لأنّها كما قلنا لا تشمل إلاّ نجاسةحادثة في أثناء الصلاة، وأمّا ما كان موجوداً من أوّل الصلاة فهو مانع لها، وإنحصل العلم به في الأثناء.
إشكال ثالث وجواب
ثمّ حصلت هاهنا شبهة اُخرى، وهي أنّا لا نعلم وجه إجراء الاستصحابوالحكم بصحّة الصلاة في الصورة الأخيرة، أعني قوله عليهالسلام : «وإن لم تشكّ ثمّرأيته رطباً إلخ» لأنّ الفرض في هذه الصورة أن يرى المصلّي نجاسة في الأثناءواحتمل كونها معه من أوّل الصلاة وحدوثها في الأثناء، فحال العلم بها ليكون مجرى استصحاب الطهارة ولا مصداقاً لأخبار الرعاف، أمّا الأوّل:فظاهر، وأمّا الثاني: فلعدم العلم بحدوثها في الأثناء حتّى يكون مصداقاً لتلكالأخبار، فكيف حكم الإمام عليهالسلام بصحّة الصلاة، وعلّلها باستصحاب الطهارة؟
ولكن يمكن الجواب عنها بأنّه لا إشكال في جريان استصحاب الطهارةبالنسبة إلى ما قبل العلم بالنجاسة، وأثره الشرعي صحّة ما وقع من الصلاةقبل العلم بها، وأمّا مسألة مانعيّة هذه النجاسة فيمكن حلّها بأنّا نشكّ فيكونها مانعة أم لا، ومنشأ هذا الشكّ أنّا لا نعلم أنّها هل حدثت في الأثناء،فلا تكون مانعة، أو كانت من أوّل الأمر، فتكون مانعة، فتجري البراءةالشرعيّة والعقليّة، كما تجري البراءة ـ على التحقيق ـ بقسميها فيما إذا شككنا فيمانعيّة ثوب للصلاة، كما إذا شككنا في كونه من الحيوان المذكّى أم لا؟ فإنّجريان البراءة في اللباس المشكوك كونه من المذكّى أو غيره وإن كان مختلف