ج6
التخلّص عن الإشكال، سواء اُريد إجراء استصحاب الكلّي المعرّى واقعاً عنالوجود والخصوصيّة أو استصحاب الكلّي المتشخّص بإحدى الخصوصيّتينأو الكلّي الموجود في الخارج مع قطع النظر عن الخصوصيّة، وذلك لاختلالركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير.
أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ حصول اليقين بوجود الكلّي المعرّى عنالوجود والخصوصيّة غير معقول، فلا يحصل الشكّ أيضاً، فيختلّ ركناه.
وأمّا على التقدير الثاني: فلأنّ ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما،لأنّ الكلّي المتشخّص بكلّ خصوصيّة يغاير المتشخّص بالخصوصيّة الاُخرى،فتكون القضيّة المتيقّنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما، وقضيّة اعتبار وحدتهمع المشكوك فيها أن يشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال، وفي المقام لا يكون الشكّفي بقاء المعلوم بالإجمال، بل يعلم في الزمان الثاني إجمالاً إمّا ببقاء الطويل أوارتفاع القصير، وإنّما يكون الشكّ في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم،طويل العمر كان أو قصيره، فاختلّ الركن الثاني من الاستصحاب، وهو الشكّفي بقاء المتيقّن.
وأمّا على التقدير الثالث: فلعدم وجود الكلّي في الخارج مع قطع النظر عنالخصوصيّة إلاّ على رأي الرجل الهمداني من أنّ نسبة الكلّي الطبيعي إلىأفراده من قبيل نسبة الأب الواحد إلى أولاده، فالقدر المشترك بين زيدوعمرو موجود في الخارج ويسمّى الإنسان، وهما فردان من الإنسان، لا أنّهمإنسانان، وأمّا على ما هو المشهور بين الفلاسفة والمنطقيّين ـ وهو المسلكالمنصور ـ من أنّ نسبة الكلّي الطبيعي إلى أفراده من قبيل نسبة الآباء المتعدّدةإلى أبنائهم والكلّي يكون متكثّر الوجود بتكثّر أفراده وكلّ واحد من زيدوعمرو إنسان فتكون الطبيعة في الخارج طبيعتين، فكما لا علم تفصيلي
(صفحه152)
بإحدى الخصوصيّتين لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين.
نعم، نعلم إجمالاً بتحقّق الكلّي في ضمن أحد الفردين، إلاّ أنّا لا نشكّ فيالزمان الثاني في بقاء ذلك المعلوم بالإجمال، لأنّا نعلم ببقائه على تقدير حدوثهفي ضمن الفرد الطويل وبارتفاعه على تقدير حدوثه في ضمن الفرد القصير كمقلنا في التقدير الثاني، ففي هذا التقدير أيضاً اختلّ الركن الثاني منالاستصحاب، وهو الشكّ في بقاء المتيقّن السابق.
فالتخلّص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدة القضيّتين عرفاً، وهيالمعتبرة في الاستصحاب(1).
ما الفرق بين المقام وبين استصحاب البقاء في الشبهة المفهوميّة؟
ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً آخر، وهو ما يرد على استصحاب بقاء النهار فيالشبهة المفهوميّة في أنّ النهار ينتهي باستتار قرص الشمس أو يبقى إلى زوالالحمرة المشرقيّة؛ لأنّ الاستصحاب غير جارٍ فيه، لعدم الشكّ في الخارج، لأنّاستتار القرص معلوم وعدم زوال الحمرة معلوم أيضاً، فالأمر دائر بينالمعلومين، وإنّما الشكّ في انطباق مفهوم النهار على إحدى القطعتين.
وكذا الحال فيما نحن فيه، لدوران الأمر بين المقطوعين، لأنّ الحيوانالخارجي إمّا باقٍ قطعاً أو مرتفع كذلك، فلا شكّ في الخارج، وإنّما الشكّ فيانطباق عنوان الفيل أو البقّ عليه.
بيان الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في الجواب عن الإشكال
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ قياس ما نحن فيه على
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 127.
ج6
الشبهة المفهوميّة مع الفارق، لأنّ الشكّ في الشبهة المفهوميّة ليس إلاّ في المعنىاللغوي أو العرفي، أي يشكّ في أنّ لفظ «النهار» موضوع إلى هذا الحدّ أو ذلكالحدّ، وهو ليس مجرى الاستصحاب؛ لأنّ المعنى اللغوي أو العرفي لا يثبتبالاستصحاب.
بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الشكّ إنّما هو في بقاء الحيوان الخارجي، ومنشالشكّ إنّما هو الشكّ في طول عمره وقصره واقعاً، ومثل ذلك لا إشكال فيجريان الاستصحاب فيه، لأنّه مربوط بالواقع، لا بالعرف واللغة، فلا ربطللمقام بالشبهة المفهوميّة(1).
الشبهة العبائيّة
بقي هنا إشكال آخر منسوب إلى الفقيه الجليل السيّد إسماعيل الصدر رحمهالله ،وهو المعروف بالشبهة العبائيّة، وهي أنّه لو علمنا بإصابة النجاسة أحد طرفيالعباء من الأسفل أو الأعلى ثمّ طهّرنا الطرف الأسفل فطهارته يورث الشكّ فيبقاء النجاسة في العباء؛ لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرفالأعلى، فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة ويلزمه القول بنجاسة الملاقيللطرفين، مع أنّه لم يلتزم به أحد، لأنّ الطرف الأسفل مقطوع الطهارة والطرفالأعلى مشكوك النجاسة، للشكّ في إصابة النجاسة له، فلا يجري الاستصحابفي القسم الثاني من الكلّي، لعدم ترتّب الأثر عليه.
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» حول الشبهة العبائيّة
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» بأنّ جريان
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 129.
(صفحه154)
استصحاب النجاسة وإن كان ممّا لا مانع منه، لأنّ وجود النجاسة في الثوبكان متيقّناً، ومع تطهير أحد طرفيه يشكّ في بقائها فيه، إلاّ أنّه لا يترتّب علىملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس، فإنّ استصحاب بقاء الكلّي لا يثبت كونملاقاة الأطراف ملاقاة النجس إلاّ بالأصل المثبت، لأنّ ملاقاة الأطرافملاقاة للنجس عقلاً.
توضيح ذلك: أنّه لو حصل لنا العلم التفصيلي بنجاسة موضع من العباءمثلاً، ثمّ شككنا في تطهيره يجري الاستصحاب ويحكم بنجاسة ملاقيه معالرطوبة، وذلك لأنّ الاستصحاب يحكم بنجاسة ذلك الموضع من العباءظاهراً، وبضميمة حكم الشارع بتنجّس ملاقي النجس يتمّ المدّعى.
وبعبارة اُخرى: هاهنا قياس منتج لنجاسة الملاقي في هذا المثال، وهو أنّهذا الموضع من العباء نجس شرعاً بحكم الاستصحاب، وملاقي النجس نجسبحكم الأخبار.
وأمّا لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد أطراف الفرش، ثمّ حصل الملاقاةلجميعها فالعقل يحكم بتحقّق الملاقاة مع النجس لا محالة ونضمّ إليه قوله:«ملاقي النجس نجس» ونستنتج نجاسة الملاقي، وفي هذا المثال وإن كان ثبوتكون الملاقاة مع النجاسة بواسطة حكم العقل إلاّ أنّ العلم لوازمه وملزوماتهوملازماته كلّها حجّة، بخلاف الاستصحاب، ولذا لو شككنا في المثال فيتطهير الفرش بعد حصول العلم بنجاسة أحد أطرافه فإن كان لكلّي نجاستهأثر ـ كأن نذر إعطاء درهم في كلّ يوم كان فرشه نجساً ـ يجري استصحابكلّي نجاسته ويترتّب هذا الأثر عليه، بخلاف نجاسة ملاقي جميع الأطراف، لأنّالشارع حكم بنجاسة ملاقي النجس، وكون هذه الملاقاة ملاقاةً مع النجسمن اللوازم العقليّة المترتّبة على استصحاب نجاسة الفرش، فلا يجري
ج6
استصحاب نجاسة الفرش بالنسبة إلى ترتّب نجاسة ملاقيه، لأنّه مثبت.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ استصحاب كلّي النجاسة في العباء الذيكان أحد طرفيه نجساً وغسل طرفه الأسفل لا يثبت أنّ ملاقاة كلا طرفيالعباء ملاقاة للنجاسة إلاّ بالاستلزام العقلي؛ لأنّ المحرز بالوجدان هو ملاقاةالعباء، لا ملاقاة النجس، فيكون أصلاً مثبتاً(1).
هذا حاصل ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» عن الشبهة مع توضيح منّا.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وقرّر المحقّق النائيني رحمهالله هذا الجواب ببيان علمي، وهو أنّه لو كان طرفمعيّن من العباء نجساً يجري الاستصحاب في مفاد «كان الناقصة» لأنّا نقول:هذا الموضع من العباء كان نجساً، والآن نشكّ في بقاء نجاسته، فيستصحبويترتّب عليه نجاسة ملاقيه بلا واسطة عقليّة(2).
وأمّا الاستصحاب المدّعى في المقام فلا يمكن جريانه في مفاد «كانالناقصة» بأن يشار إلى طرف معيّن من العباء ويقال: إنّ هذا الطرف كان نجسوشكّ في بقائها، فالاستصحاب يقتضي نجاسته، وذلك لأنّ أحد طرفي العباءمقطوع الطهارة، والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، فليس لنيقين بنجاسة طرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها.
نعم، يمكن إجرائه في مفاد «كان التامّة» بأن يقال: إنّ النجاسة في العباءكانت موجودة وشكّ في ارتفاعها، فالآن كما كانت، إلاّ أنّه لا تترتّب نجاسةالملاقي على هذا الاستصحاب إلاّ على القول بالأصل المثبت، لأنّ الحكم
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 129.
- (2) وذلك لأنّ نجاسة الملاقى ثابتة بالاستصحاب، والملاقاة تحقّقت بالوجدان، فيترتّب الأثر عليه، وهونجاسة الملاقي. م ح ـ ى.