(صفحه214)
في بقائه على ما كان عليه من الحلّيّة والحرمة بنحو كانتا عليه، فقضيّةاستصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّيّته المغيّاةحرمته فعلاً بعد غليانه وانتفاء حلّيّته، فإنّه قضيّة نحو ثبوتهما، كان بدليلهما أوبدليل الاستصحاب كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب، فالتفت ولتغفل كيلا(1) تقول في مقام التفصّي عن إشكال المعارضة أنّ الشكّ في الحلّيّةفعلاً بعد الغليان يكون مسبّبا عن الشكّ في الحرمة المعلّقة(2)، إنتهى موضعالحاجة من كلامه.
بيان ما أراده المحقّق الخراساني رحمهالله في الحاشية والكفاية
ثمّ قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» ـ بعد نقل هذين الكلامينمنه رحمهالله ـ برجوع ما في الكفاية إلى ما في التعليقة، فإنّه«مدّ ظلّه» قال: والظاهر أنّهيرجع إلى ما في التعليقة مع تعبير مخلّ وتغيير مضرّ(3).
لكنّ التأمّل في عبارته في الكفاية التي نقلناها بعينها يعطي خلاف ذلك،فإنّه صرّح في التعليقة بأنّ الشكّ في الإباحة بعد الغليان مسبّب عن الشكّ فيحرمته المعلّقة قبله، وصرّح في الكفاية بعدم السببيّة والمسببيّة بينهما.
بل مراده في الكفاية أنّ للعنب بعد صدور قول الشارع: «العنب إذا غلىيحرم» حكمين: حرمة معلّقة على الغليان، وحلّيّة مغيّاة به، فإذا صار زبيبوشككنا في بقاء حرمته المعلّقة شككنا في بقاء حلّيّته المغيّاة أيضاً لا محالة، ولإشكال في جريان كلا الاستصحابين، لعدم المنافاة بين الحكمين إذا كانمقطوعين فضلاً عن كونهما ثابتين بالاستصحاب، وقضيّة جريان
- (1) هذه العبارة إلى آخر كلامه في المقام ليست في متن الكفاية، بل في حاشية منه قدسسره . م ح ـ ى.
- (3) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 170.
ج6
الاستصحابين حرمته الفعليّة بعد الغليان وانتفاء حلّيّته، لتحقّق غاية الحلّيّة،وهي الغليان.
وأين هذا المعنى ممّا ذهب إليه في التعليقة؟!
وحمل بعض الأعلام أيضاً ما في الكفاية على غير مراده رحمهالله ، فإنّه قال: بيانما ذكره في الكفاية بتوضيح منّا: أنّ الحلّيّة الثابتة للزبيب قبل الغليان غيرقابلة للبقاء ولا يجري فيها الاستصحاب، لوجود أصل حاكم عليه، وذلك لأنّالحلّيّة في العنب كانت مغيّاة بالغليان، إذ الحرمة فيه كانت معلّقة على الغليان،ويستحيل اجتماع الحلّيّة المطلقة مع الحرمة على تقدير الغليان كما هو واضح،وأمّا الحلّيّة في الزبيب فهي وإن كانت متيقّنة، إلاّ أنّها مردّدة بين أنّها هل هيالحلّيّة التي كانت ثابتةً للعنب بعينها حتّى تكون مغيّاة بالغليان، أو أنّها حادثةللزبيب بعنوانه فتكون باقية ولو بالاستصحاب؟ والأصل عدم حدوث حلّيّةجديدة وبقاء الحلّيّة السابقة المغيّاة بالغليان، وهي ترتفع به، فلا تكون قابلةللاستصحاب، فالمعارضة المتوهمّة غير تامّة.
ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث استصحاب الكلّي، من أنّه إذا كان المكلّفمحدثا بالحدث الأصغر ورأى بللاً مردّدا بين البول والمنيّ، فتوضّأ، لم يمكنجريان استصحاب كلّي الحدث، لوجود أصل حاكم عليه، وهو أصالة عدمحدوث الجنابة وأصالة عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر.
والمقام من هذا القبيل بعينه.
وهذا الجواب متين جدّا(1)، إنتهى كلامه.
أقول: هذا البيان مع قطع النظر عن صحّته وسقمه لا يطابق كلامه رحمهالله فيالكفاية، إذ لم يكن فيه من أصالة عدم حدوث حلّيّة جديدة عين ولا أثر.
- (1) مصباح الاُصول 3: 142.
(صفحه216)
بقي الكلام في صحّة ما سلكه المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة:
نقد ما أفاده رحمهالله في الحاشية
أمّا كلامه في التعليقة فاُورد عليه بأنّ الشكّ في الحلّيّة بعد الغليان وإن كانمسبّبا عن الشكّ في الحرمة التعليقيّة قبله، إلاّ أنّ هذا لا يكفي في الحكومةوتقدّم الثاني على الأوّل.
توضيح ذلك: أنّ تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في باب الحكومة إنّما هولأنّ الأصل الجاري في السبب يرفع الشكّ تعبّدا عن المسبّب، أي يكون التعبّدببقاء السبب أثره الشرعي هو التعبّد بحكم المسبّب، وإلاّ فلا وجه لتقدّمأحدهما على الآخر.
توضيح ذلك: أنّا إذا غسلنا ثوبا متنجّسا بماء شكّ في كرّيّته وكان كرّسابقا يقع التعارض بدوا بين استصحاب كرّيّة الماء واستصحاب نجاسةالثوب، وذلك لأجل ضمّ كبرى شرعيّة ـ أعني «المتنجّس إذا غُسِل في الكرّيطهر» ـ إلى استصحاب الكرّيّة، فإنّ استصحاب نجاسة الثوب ينافي ويعارضبدوا استصحاب كرّيّة الماء بملاحظة ضمّ تلك الكبرى الكلّيّة الشرعيّة إليه؛لتضادّ الحكمين، أعني النجاسة المستفادة من استصحاب النجاسة والطهارةالمستفادة من الكبرى الشرعيّة، ولو لم تكن تلك الكبرى لم يكن بين الأصلينتعارض أصلاً، لتغاير موضوعهما ومحمولهما، فإنّ موضوع أحدهما هو الماءومحموله الكرّيّة، وموضوع الآخر هو الثوب ومحموله النجاسة.
وبهذا ظهر وجه تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في المثال، وهو أنّ تلكالكبرى الشرعيّة المنضّمة إلى استصحاب الكرّيّة ترفع الشكّ تعبّدا عنالمسبّب.
ج6
وبعبارة اُخرى: يكون التعبّد ببقاء السبب أثره الشرعي هو التعبّد بحكمالمسبّب، فإنّ التعبّد ببقاء كرّيّة الماء أثره الشرعي طهارة الثوب المغسول به،ولا عكس، إذ ليس لاستصحاب نجاسة الثوب أثر شرعي مبيّن لحكم الماءالذي شكّ في كرّيّته، وإن كان له أثر عقلي كذلك، حيث إنّ التعبّد بنجاسةالثوب أثره العقلي عدم كرّيّة الماء، فتقدّم الأصل السببي إنّما هو بملاك رفعهالشكّ عن المسبّب تعبّدا، دون العكس.
وسيأتي زيادة توضيح لذلك إنشاء اللّه تعالى.
وأمّا الأصل الجاري في ناحية السبب في ما نحن فيه ـ أعني استصحابالحرمة المعلّقة قبل الغليان ـ فلا يكون له أثر شرعي مبيّن لحكم المسبّب.
وأمّا عدم الحلّيّة المترتّب على الحرمة الفعليّة بعد الغليان المترتّبة علىالحرمة المعلّقة قبله وإن كان مترتّبا على الأصل السببي، إلاّ أنّه أثر عقليمترتّب على الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري(1)، فلا وجه لتقدّم الأصلالجاري في السبب على الجاري في المسبّب.
مسلك الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في المقام
وذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» ـ كالشيخ رحمهالله ـ إلى حكومةاستصحاب الحرمة التعليقيّة على استصحاب الإباحة، كسائر الحكومات، لأنّ
- (1) توضيحه: أنّ استصحاب الحرمة التعليقيّة قبل الغليان يقتضي الحرمة الفعليّة بعده، والحرمة الفعليّةكذلك تقتضي عدم الحلّيّة، لأنّ عدم الحلّيّة وإن كان من آثارها العقليّة، إلاّ أنّك عرفت أنّ المستصحب إذكان مجعولاً شرعيّا يترتّب عليه جميع آثاره، حتّى العقليّة والعاديّة منها.
لكنّه مع ذلك لا يرفع الشكّ في الحلّيّة وعدمها عن ناحية المسبّب، لما عرفت من أنّ الملاك في رفعالشكّ عن المسبّب هو التعبّد الشرعي بحكمه، لا ما يحكم به العقل بملاحظة الأصل السببي، فليس بينالأصلين تقدّم وتأخّر، بل كلاهما يجريان ويتعارضان ويتساقطان، ثمّ يرجع إلى القواعد الاُخر. هذتوضيح كلام هذا المستشكل. م ح ـ ى.
(صفحه218)
شرط حكومة أصل على آخر أمران: أحدهما: كون أحد الشكّين مسبّبا عنالآخر، والثاني: أن يكون جريان الأصل في السبب رافعا للشكّ عن المسبّبتعبّدا، كما أنّ استصحاب كرّيّة الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول بهبحسب الكبرى الشرعيّة من أنّ الكرّ مطهّر، فيرفع الشكّ في أنّ الثوب طاهرأم لا؟
ثمّ إنّه«مدّ ظلّه» ذكر مقدّمتين لإثبات المدّعى:
الاُولى: أنّ الحكم الشرعي إذا كان معلّقا على شيء صار فعليّا بعد تحقّقما علّق عليه، وهذا الحكم الفعلي المترتّب على التعليقي والترتّب عليه كلاهمشرعيّان، فإذا قال الشارع: «العنب يحرم إذا غلى» يترتّب عليه بعد الغليانحرمة فعليّة للعنب، وهذه الحرمة الفعليّة وترتّبها على الحرمة التعليقيّة كلاهمشرعيّان.
الثانية: أنّ الشكّ والترديد قائم بطرفين، فإذا شككنا في طهارة شيء مثلتارةً نعبّر عنه بالشكّ في طهارته ونجاسته، واُخرى بالشكّ في الطهارة وعدمها،وثالثةً بالشكّ في النجاسة وعدمها، ولكنّه لا تكون في النفس إلاّ حالة ترديديّةواحدة، والتعبير عنها مختلف، فإذا قام الدليل على طهارة ذلك الشيء ارتفعالترديد رأسا، لزوال أحد طرفيه ولو تعبّدا، فإذا كان مفاد أصل هو الطهارةبلسان الأصل السببي يكون رافعا للشكّ المتقوّم بطرفي الترديد، فيصير حاكمعلى الأصل المسبّبي.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الشكّ في بقاء الإباحة الفعليّة للعصيرالزبيبي المغليّ مسبّب عن بقاء الحرمة الشرعيّة التعليقيّة بالنسبة إلى الزبيبقبل غليانه، ولمّا كان التعليق شرعيّا تكون الحرمة الفعليّة بعد الغليان وترتّبهعلى الحرمة التعليقيّة قبله كلاهما بحكم الشرع، فترتّب الحرمة على العصير