(صفحه224)
أحكامها كلّها يستفاد من عموم أو خصوص في الشريعة، فلا نشكّ في حكمهحتّى نحتاج إلى الاستصحاب(1).
شبهة تغاير الموضوع في استصحاب عدم النسخ
وكيف كان، فنقول: اُورد على استصحاب عدم النسخ بأنّ الحكم الثابت فيحقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ الآخرين، لتغاير الموضوع، فإنّ الأحكامالثابته في شريعة موسى عليهالسلام مثلاً ثبتت في حقّ من كان موجودا في ذلكالزمان فقط، والأحكام الثابتة في شريعتنا ثبتت في حقّ من أدرك النبي صلىاللهعليهوآله فلوشككنا في بقاء حكم منها في هذا الزمان لا يمكن استصحابه، لتغاير القضيّةالمتيقّنة مع المشكوكة.
كلام الشيخ الأنصاري في الجواب عن الشبهة
وأجاب عنها الشيخ الأعظم رحمهالله بأنّ الحكم ثابت للكلّي، كما أنّ الملكيّة له فيباب الزكاة والوقف العامّ، حيث لا مدخل للأشخاص فيها(2).
وفي هذا الجواب بظاهره إشكال واضح، وهو أنّ التكليف وما يستتبعه منالطاعة أو المعصية والثواب أو العقاب لا يمكن أن يتعلّق بالكلّي، لكونه أمراعتباريّا غير قابل لتوجّه التكليف ـ الذي هو من الاُمور الحقيقيّة ـ إليه،بخلاف مثل الملكيّة في باب الزكاة والوقف العامّ، فإنّها أمر اعتباري قد يتعلّقبالكلّي، كالفقراء، بل قد يتعلّق بما لا يعقل، كالمسجد ونحوه.
كلام صاحب الكفاية في الجواب عن الشبهة
- (1) راجع فرائد الاُصول 3: 229.
- (2) فرائد الاُصول 3: 226.
ج6
فلأجل هذا الإشكال أرجع المحقّق الخراساني رحمهالله هذا الجواب إلى ما ذكره،من أنّ الأحكام ثابتة لعامّة أفراد المكلّف ممّن وجد أو يوجد على نحو القضايالحقيقيّة، لا لخصوص الأفراد الخارجيّة كما هو قضيّة القضايا الخارجيّة، فمرادالشيخ رحمهالله أيضاً أنّ الأحكام تعلّقت بالأشخاص، سواء كانوا موجودين محقّقأو مقدّرا، ولا مدخل لأشخاص خاصّة فيها(1).
فلا يرد الإشكال المتقدّم على استصحاب عدم النسخ.
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» حول استصحاب أحكام الشرائع السابقة
لكن هاهنا إشكال آخر أورده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» علىاستصحاب أحكام الشرائع السابقة خاصّة(2)، وهو أنّه من الممكن أن يكونالمأخوذ في موضوع الحكم الثابت في الشرائع السابقة عنوان على نحو القضيّةالحقيقيّة لا ينطبق ذلك العنوان على الموجودين في عصرنا، كما لو اُخذ عنوان«اليهود» و«النصارى» فإنّ القضيّة وإن كانت حقيقيّة، لكن لا ينطبق عنوانموضوعها على غير مصاديقه، ففي قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ»(3) إلخ كانت القضيّةحقيقيّة، لكن إذا شكّ المسلمون في بقاء حكمها لهم لا يجري الاستصحاب، كملو ثبت حكم للفقراء وشكّ الأغنياء في ثبوته لهم لا يمكن إثباته لهمبالاستصحاب، وهذا واضح جدّا.
ولا يخفى أنّ مجرّد احتمال أخذ عنوان غير منطبق على المسلمين كفى في
- (2) لحصر الإمام أيضاً البحث في استصحاب الشرائع السابقة وجعله جريانه في شريعتنا من المسلّمات.م ح ـ ى.
(صفحه226)
المنع، للزوم إحراز وحدة القضيّتين، ولا دافع للاحتمال في حكم من الأحكامالمشكوك في نسخها، لأنّ ظواهر الكتب المنسوخة الرائجة بينهم ليست قابلةًللتمسّك بها مع ورود الدسّ والتغيير عليها، وأصلها الغير المتغيّر ليس عندهمولا عندنا حتّى يعلم أنّ الحكم ثابت للعنوان الكذائي، والقرآن المجيد لم يحكالعناوين المأخوذة في موضوع أحكامهم الكلّيّة كما يظهر بالتأمّل فيما جعلوهثمرةً للنزاع تبعا للمحكيّ عن تمهيد القواعد.
فتحصّل ممّا ذكرنا عدم جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة(1)،إنتهى موضع الحاجة من كلامه«مدّ ظلّه» ملخّصا.
نظريّة المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» حول استصحاب عدم النسخ
ثمّ إنّ بعض الأعلام أنكر جريان استصحاب عدم النسخ مطلقا، حتّى فيشريعتنا، وله بيان نظير ما أفاده سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» في ردّ استصحابأحكام الشرائع السابقة، حيث قال:
وفيه(2): أنّ النسخ في الأحكام الشرعيّة إنّما هو بمعنى الدفع وبيان أمدالحكم، لأنّ النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقّهسبحانه وتعالى، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ الإهمال بحسب الواقع ومقام الثبوتغير معقول، فإمّا أن يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد،وإمّا أن يجعله ممتدّا إلى وقت معيّن، وعليه فالشكّ في النسخ شكّ في سعةالمجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور،وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة، فإنّ الشكّ في نسخها شكّ في ثبوت
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 175.
- (2) أي في الجواب عن إشكال تغاير الموضوع بكون الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة لا علىنحو القضايا الخارجيّة. م ح ـ ى.
ج6
التكليف بالنسبة إلى المعدومين، لا شكّ في بقائه بعد العلم بثبوته، فإنّ احتمالالبداء مستحيل في حقّه تعالى، فلا مجال حينئذٍ لجريان الاستصحاب.
وتوهّم أنّ جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة ينافي اختصاصهبالموجودين، مدفوع بأنّ جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة معناه عدمدخل خصوصيّة الأفراد في ثبوت الحكم، لا عدم اختصاص الحكم بحصّةدون حصّة، فإذا شككنا في أنّ المحرّم هو الخمر مطلقا، أو خصوص الخمرالمأخوذة من العنب، كان الشكّ في حرمة الخمر المأخوذة من غير العنب شكّفي ثبوت التكليف، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه، والمقام من هذا القبيل،فإنّا نشكّ في أنّ التكليف مجعول لجميع المكلّفين أو هو مختصّ بمدركي زمانالحضور، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكّا في ثبوتالتكليف، لا في بقائه، فلا مجال لجريان الاستصحاب حينئذٍ إلاّ على نحوالاستصحاب التعليقي، بأن يقال: لو كان هذا المكلّف موجودا في ذلك الزمانلكان هذا الحكم ثابتا في حقّه، والآن كما كان، لكنّك قد عرفت(1) عدم حجّيّةالاستصحاب التعليقي.
فالتحقيق: أنّ هذا الإشكال لا دافع له، وأنّ استصحاب عدم النسخ ممّا لأساس له، فإن كان لدليل الحكم عموم أو إطلاق يستفاد منه استمرار الحكم،فهو المتّبع، وإلاّ فإن دلّ دليل من الخارج على استمرار الحكم، كقوله عليهالسلام :«حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(2)فيؤخذ به، وإلاّ فلا يمكن إثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ.
فما ذكره المحدّث الأستر آبادي ـ من أنّ استصحاب عدم النسخ من
- (1) راجع مصباح الاُصول 3: 136.
- (2) الكافي 1: 58، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقائيس، الحديث 19.
(صفحه228)
الضروريّات ـ إن كان مراده الاستصحاب المصطلح، فهو غير تامّ، وإن كانمراده نتيجة الاستصحاب ولو من جهة الأدلّة الدالّة على الاستمرار، فهوخارج عن محلّ الكلام(1)، إنتهى كلامه.
نقد نظريّة المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المسألة
ويرد عليه أنّ النسخ وإن كان بمعنى الدفع وانتهاء أمد الحكم، إلاّ أنّ منأدرك النبيّ صلىاللهعليهوآله وعمل بحكم في المدينة المنوّرة مثلاً ثمّ سافر إلى بلد بعيد عنهبحيث يشكل عليه زيارته صلىاللهعليهوآله ثمّ شكّ في نسخ ما كان يعمل به في المدينة ليكون له مرجع إلاّ استصحاب عدم النسخ، وليس الشكّ حينئذٍ شكّا فيثبوت التكليف في حقّه، بل في بقائه كما هو واضح.
فقوله: «إنّ استصحاب عدم النسخ ممّا لا أساس له» ممّا لا أساس له.
هذا بالنسبة إلى من أدرك زمان الحضور.
وأمّا بالنسبة إلينا فلو كان لنا خطاب عامّ لنا من حيث الأفراد ـ مثل«يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»(2) ـ ولكنّا شككنا في استمرارهودوامه فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ أيضاً، إذ الشكّ هاهنأيضاً في البقاء لا في الحدوث، فإنّ الخطاب عامّ على الفرض والقضيّة حقيقيّةلا خارجيّة.
فالحاصل: أنّ أصالة عدم النسخ جارية بالنسبة إلى أحكام شريعتنا، وأمّبالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة فلا، للإشكال المتقدّم ذكره الذي أفادهسيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه».
- (1) مصباح الاُصول 3: 148.