ج6
والتحقيق أنّ تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي يكون بنحو الورود.
توضيح ذلك يحتاج إلى مقدّمة:
وهي أنّ قضيّة أخبار الباب هو الحكم ببقاء المستصحب، سواء كان منالأحكام أو الموضوعات.
فما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ قضيّتها هو إنشاء حكم مماثلللمستصحب في استصحاب الأحكام ولأحكامه في استصحابالموضوعات(1)، غير تامّ.
إذ مفادها ـ كما عرفت(2) ـ هو الحكم بحجّيّة اليقين السابق في الزماناللاحق أيضاً تعبّدا، فإن كان متعلّق اليقين هو الحكم فأخبار الاستصحابتحكم ببقائه تعبّدا، وإن كان هو الموضوع تحكم ببقاء الموضوع من دون أنتتعرّض لحكمه، بل حكمه يستفاد من دليل آخر بعد تنقيح الاستصحابموضوعه، مثلاً إذا شككنا في بقاء خمريّة مايع يجري استصحابها وينقّحموضوع قوله: «كلّ خمر حرام» فالاستصحاب حاكم على هذا الدليلالاجتهادي بتوسعة موضوعه(3).
إذا عرفت هذا فنقول في المقام: استصحاب طهارة الماء في المثال المتقدّمينقّح موضوع قوله: «كلّ ماء طاهر مطهّر» وحاكم عليه، لكونه متعرّضلموضوعه توسعةً، فلا مجال لاستصحاب نجاسة الثوب المغسول بهذا الماءالمستصحب الطهارة، لأنّ قوله: «كلّ ماءٍ طاهرٍ مطهّر» وارد على قوله: «ل
- (1) راجع كفاية الاُصول: 472.
- (3) إن قلت: هذا ينافي القول بتقدّم الأمارات على الاستصحاب وكونه فرشها. قلت: لا، فإنّ تقدّم الأماراتعليه إنّما يكون فيما إذا كان بينهما معارضة، كما إذا اقتضى الاستصحاب وجوب صلاة الجمعة وقامترواية معتبرة على عدم وجوبها، بخلاف المقام، فإنّ الاستصحاب هنا لا يعارض الدليل الاجتهادي، بليفسّره ويشرحه. منه مدّ ظلّه.
(صفحه358)
تنقض اليقين بالشكّ» فإنّ مفاده حرمة نقض الحجّة بغير الحجّة، وقوله: «كلّماءٍ طاهرٍ مطهّرٌ» بوجوده حجّة رافعة لموضوعه.
وبالجملة: يستفاد طهارة الماء من الاستصحاب، ومطهّريّته من الدليلالاجتهادي الدالّ على مطهّريّة الماء الطاهر، فلا يبقى مورد لاستصحاب نجاسةالثوب، فالأصل السببي حاكم على الدليل الاجتهادي، وهو وارد على الأصلالمسبّبي، فالأصل السببي بمعونة الدليل الاجتهادي وارد على الأصل المسبّبي.هذا هو مقتضى التحقيق في المقام.
تعارض الاستصحابين الذين بينهما سببيّة غير شرعيّة
وأمّا إذا كانت السببيّة غير شرعيّة فلا وجه لتقدّم الاستصحابالسببي على المسبّبي، لعدم الارتباط بينهما، فإنّا إذا استصحبنا حياةزيد يترتّب عليه حرمة تزويج زوجته وحرمة التصرّف في أموالهونحوهما من آثار الحياة، وأمّا آثار نبات لحيته الذي يكون الشكّ فيه مسبّبعن الشكّ في الحياة فلا، لأنّ استصحاب الحياة بالنسبة إليها مثبت، وبعبارةاُخرى: إذا استصحبنا حياة زيد فهو ينقّح موضوع قوله: «إذا كان زيد حيّيحرم التزويج بزوجته والتصرّف في أمواله» وأمّا نبات لحيته وعدمه فليرتبط باستصحاب الحياة، ولا بهذا الدليل الاجتهادي المترتّب عليه، فلو نذرتصدّق عشرة دراهم على تقدير نبات لحية زيد لما وجب عليه باستصحابحياته، لأنّ الآثار العاديّة والعقليّة لا تترتّب على المستصحب ولا الآثارالشرعيّة المترتّبة عليهما، فلا يكون استصحاب الحياة مقدّما على استصحابعدم نبات اللحية.
وهذا هو السرّ في إجراء الإمام عليهالسلام استصحاب الوضوء في الصحيحة
ج6
الاُولى لزرارة بقوله: «فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدبالشكّ» مع كون الشكّ في بقاء الوضوء في مورد الرواية مسبّب عن الشكّ فيالنوم، وذلك أنّ السببيّة حيث لا تكون شرعيّة بل عقليّة لا يكون استصحابعدم النوم مقدّما على استصحاب الوضوء، كما عرفت توضيح ذلك في البحثعن مفاد الرواية، فراجع(1).
تعارض الاستصحابين الذين لا سببيّة بينهم
وأمّا إذا لم يكن الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الآخر أصلاً فلابدّ قبلالتحقيق في المسألة من تحرير محلّ النزاع، فنقول:
وقع النزاع في وجه عدم جريان الاُصول العمليّة في أطراف العلم الإجماليعلى ثلاثة أقوال(2):
الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله من أنّ وجهه هو لزوم التناقض في أدلّةالاُصول على تقدير جريانها في أطراف العلم، فإنّا إذا علمنا بطهارة إنائين ثمّعلمنا بوقوع قطرة من الدم في أحدهما إجمالاً فلو كان الاستصحاب جاريفيهما لزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وذيلها، فإنّ صدرها ـ أعنيقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» ـ يقتضي طهارة كلا الإنائين تعبّدا، وذيلهـ أعني قوله: «ولكن تنقضه بقين آخر» ـ يوجب ترتيب الأثر على العلمالإجمالي بنجاسة أحدهما، وهذا تناقض ظاهر.
الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ وجهه لزوم المخالفة العمليّة
- (2) تقدّم تفصيل هذا البحث في مبحث الاشتغال، والاُستاذ«مدّ ظلّه» أشار هاهنا إجمالاً إلى الأقوال فقطلتشخيص محلّ النزاع في تعارض الاستصحابين، ومن أراد التفصيل فليراجع الصفحة 51 وما بعدها منالجزء الخامس. م ح ـ ى.
(صفحه360)
للتكليف المعلوم بالإجمال، فإنّا إذا استصحبنا طهارة كلا الإنائين خالفنالتكليف بالاجتناب عن النجس.
الثالث: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ وجهه أنّه لا يمكن جرياندليل الاستصحاب في أطراف العلم، لأنّ من(1) هو عالم بأنّ المكلّف قطعبارتفاع الحالة السابقة في أحد طرفيه ويكون قطعه حجّة ذاتا كيف يمكن لهأن يحكم ببقائها في كليهما تعبّدا؟!
وهكذا سائر الاُصول.
وما اختاره الشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله يتّحدان نتيجةً، وهي أنّ الاُصولـ ومنها الاستصحاب ـ لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا، سواء استلزمجريانها فيها مخالفة عمليّة لتكليف معلوم بالإجمال، كالمثال السابق، أم لا،كاستصحاب نجاسة إنائين عند العلم بصيرورة أحدهما طاهرا، لكنّ الشيخذهب إليه لأجل مقام الإثبات ودلالة الدليل، والمحقّق النائيني لأجل مقامالثبوت.
بخلاف ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله ، فإنّه لا يمنع جريان الاُصول فيأطراف العلم إلاّ فيما إذا استلزم المخالفة العمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال.
محلّ النزاع في المقام
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ البحث هاهنا إنّما هو في تعارض الاستصحابينبعد الفراغ عن جريانهما في أنفسهما، لا في جريانهما وعدمه في أطراف العلم.
فعلى هذا لا مجال لهذا البحث على ما ذهب إليه الشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم، لقصور دلالة دليله، أو لعدم
- (1) وهو الشارع المقدّس. م ح ـ ى.
ج6
إمكانه، وأمّا بناءً على جريانه فيها ذاتا وكون المحذور هو المخالفة العمليّة ـ كمذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله ـ فلا مجال لهذا البحث أيضاً لو لم يكن جريانهممستلزما لها.
فينحصر النزاع في تعارض الاستصحابين بعد العلم الإجمالي بانتقاضالحالة السابقة في أحدهما فيما إذا كان جريانهما مسلتزما للمخالفة العمليّة بعدالفراغ من جريانهما ذاتا، فإذا كان كذلك فلابدّ من البحث في حكمه.
فما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام من جريان الاستصحاب في أطرافالعلم لو لم يستلزم المخالفة العمليّة وعدم جريانه فيها لو استلزمها(1) فهومشخّص لموضوع البحث في تعارض الاستصحابين، وأمّا حكمه الذي يكونالنزاع هاهنا فيه فلم يتعرّض له أصلاً.
فلابدّ هاهنا من البحث في أنّ الاستصحابين إذا تعارضا في أطراف العلملأجل المخالفة العمليّة فهل القاعدة تقتضي تساقطهما أو التخيير بينهما أوترجيح أحدهما لو كان له مزيّة؟
تصوير تعارض الاستصحابين في غير موارد العلم الإجمالي
ويمكن تصوير مورد آخر لمحلّ النزاع غير أطراف العلم الإجمالي، وهو مإذا دلّ دليل على عدم الجمع بين المستصحبين من دون أن يكون الشكّ في بقاءأحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر ومن دون أن يعلم بانتقاض الحالة السابقةفي أحدهما إجمالاً.
مثاله: أن يكون لنا ماء قليل نجس بالملاقاة فتمّمناه كرّا بماء طاهر،فشككنا في بقاء طهارة المتمّم ـ بالكسر ـ وفي بقاء نجاسة المتمَّم ـ بالفتح