(صفحه362)
فيتعارض الاستصحابان لأجل الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يكون له إلحكم واحد، فلا مجال للجمع بين استصحاب طهارة المتمّم ـ بالكسر ونجاسة المتمّم ـ بالفتح ـ بعد صيرورتهما ماءً واحداً، ولولا الإجماع لما تعارضا،لعدم العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، ولا يكون الشكّ فيأحدهما مسبّبا عن الآخر أيضاً.
وفي هذا المورد يقع التعارض بين الاستصحابين عند الكلّ.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ محلّ النزاع موردان: أحدهما: ما إذا كانجريانهما مستلزما للمخالفة القطعيّة العمليّة بعد الفراغ عن جريانهما ذاتا،وهذا مبنيّ على ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في وجه عدم جريان الاُصولفي أطراف العلم، ثانيهما: قيام دليل من الخارج على عدم جواز الجمع بينالاستصحابين، ولا فرق في هذا بين مذهب المحقّق الخراساني رحمهالله وبين مذهبالشيخ والمحقّق النائيني رحمهماالله ، فإنّه من مصاديق تعارض الاستصحابين عندالجميع.
حكم الاستصحابين المتعارضين
إذا عرفت محلّ النزاع فاعلم أنّ حكمه دائر ثبوتا بين الترجيح والتساقطوالتخيير، ولا رابع لها.
أمّا الترجيح: فلا طريق إليه هاهنا كما قاله سيّدنا الاُستاذ الأعظمالإمام«مدّ ظلّه»(1)؛ لأنّه يعتبر في الترجيح أن لا يكون المرجِّح حاكما على ذيالترجيح ولا بالعكس، ويعتبر أيضاً اتّحادهما لسانا، فعلى هذا لا يجوز ترجيحأحد الاستصحابين بموافقة أمارة معتبرة له ولا بموافقة أصل من الاُصول
- (1) راجع الرسائل، مبحث الاستصحاب: 252.
ج6
العمليّة الاُخر ولا بموافقة ظنّ غير معتبر، لفقد الشرط الأوّل في الأوّلين، فإنّالأمارة واردة على الاستصحاب وهو وارد على الاُصول العمليّة الاُخر كمعرفت آنفا، ولفقد الشرط الثاني في الأخير، فإنّ الاستصحاب يفيد حكمظاهريّا عند الشكّ في الحكم الواقعي، بخلاف الظنّ، فإنّه حاكٍ عن الواقعوطريق إليه، فإذا تمّمنا الماء القليل المتنجّس كرّا بماء طاهر فلو قام دليلاجتهادي على نجاسة ما كان منه نجسا لا يمكن ترجيح استصحاب النجاسةبه، لكونه واردا على الاستصحاب ورافعا لموضوعه، فلا يبقى لنا استصحابحتّى يرجّح به، ولا يمكن أيضاً ترجيح استصحاب طهارة المتمّم ـ بالكسر بأصالة الطهارة، لأنّ الاستصحاب وارد عليها كما عرفت، فلا تبقى هي معه،ولا يمكن أيضاً ترجيح أحدهما بظنّ غير معتبر، لاختلاف لسانهما، فإنّالاستصحاب على التحقيق أصل ناظر إلى الظاهر، والظنّ طريق إلى الواقعوحاكٍ عنه، فلم يتّحد مضمونهما حتّى يترجّح أحدهما بالآخر.
نعم، لو كان الاستصحاب أمارة أو أصلاً محرزا لجاز ترجيحه بالدليلالظنّي غير المعتبر، لوحدة مضمونهما، لكنّه خلاف التحقيق.
وبالجملة: ليس لنا شيء يصلح لأن يكون مرجّحا لأحد الاستصحابينالمتعارضين.
الحقّ هو تساقط الاستصحابين المتعارضين
وأمّا وجه تساقطهما فهو أنّ أخبار الباب تشمل كلاًّ منهما على سبيلالتعيين، لا الأعمّ منه ومن التخيير، أي نسبة الأخبار إلى جميع أفرادها فيجميع حالاتها على السواء، ولا تشمل كلّ واحد منها مرّات عديدة: مرّةتعيينا، وهو إذا لم يعارض غيره أصلاً، واُخرى تخييرا بين اثنين إذا كانت
(صفحه364)
المعارضة بين استصحابين، وثالثةً بين ثلاثة إذا كانت بين ثلاثة استصحابات،وهكذا، وحينئذٍ لا يمكن الأخذ بكلّ واحد من الاستصحابين المتعارضين،للزوم المخالفة العمليّة القطعيّة أو لزوم المخالفة مع الدليل الخارجي الدالّ علىعدم الجمع بينهما، ولا يمكن الأخذ أيضاً بواحد منهما معيّنا، لعدم الترجيح،ولا مخيّرا، لعدم شمول الأخبار للأفراد بنحو التخيير، فلابدّ من الالتزامبسقوطهما.
نقد ما استدلّ به القائل بالتخيير في الاستصحابين المتعارضين
والقائل بالتخيير تمسّك بوجهين:
أحدهما: أنّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطابا تخييريّا،لوجود الملاك التامّ في كليهما، كما في باب التزاحم، فقوله: «أنقذا الغريق» يشملكلّ غريق على سبيل التعيين، وإذا كان لنا غريقان ولم نتمكّن من إنقاذ كليهمسقط الخطاب التعييني ـ أعني قوله: «أنقذ الغريق» ـ لكنّ العقل يستكشف أنّللشارع هاهنا خطابا تخييريّا، لتحقّق الملاك في كلّ منهما، والمقام أيضاً كذلك،لأنّ التعارض وإن كان يوجب سقوط الخطاب التعييني بحرمة نقض اليقينبالشكّ، إلاّ أنّ العقل يستكشف أنّ للشارع خطابا تخييريّا، لوجود الملاك فيكلّ منهما، فلابدّ من إجراء الاستصحاب في واحد منهما تخييرا.
وفيه: أنّ قياس المقام بباب التزاحم مع الفارق، فإنّ كشف الخطابالتخييري في مثل «أنقذ الغريق» ممّا لا مانع منه، لوجود الملاك في كلّ منالطرفين، دون مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» وذلك لأنّ الملاك في وجوبإنقاذ الغريق هو حفظ النفس المحترمة، وهو موجود بالنسبة إلى كلّ واحد منالغريقين وإن لم نقدر على إنقاذ كليهما، بخلاف المقام، فإنّ حرمة نقض اليقين
ج6
بالشكّ ليست تكليفا نفسيّا مشتملاً على الملاك، بل هي تكليف لأجل التحفّظعلى الواقع، لا بمعنى كونه طريقا إليه، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاكدرك الواقع، فاستصحاب الوجوب والحرمة لا يوجب حدوث ملاك فيالمستصحب، بل يكون حجّة على الواقع لو أصاب، وإلاّ يكون التخلّف تجرّيلا غير، فالنهي عن نقض اليقين بالشكّ لا يكون إلاّ بملاك التحفّظ على الواقع،وهذا الملاك ليس بموجود في الاستصحابين المتعارضين، للعلم بانتقاض الحالةالسابقة في أحدهما، أو لقيام دليل خارجي على عدم اجتماعهما، فملاكالاستصحاب لا يكون موجودا في كليهما، بخلاف باب التزاحم، فإنّك قدعرفت وجود الملاك في إنقاذ كلا الغريقين، فقياس المقام به مع الفارق.
الثاني: أنّ المحذور من جريان الاستصحاب في صورة التعارض إنّما هوناشٍ من إطلاق أدلّته، فلابدّ من رفع اليد منه، لا من أصلها، كما في بابالتزاحم، فإنّ إطلاق قوله: «أنقذ الغريق» يقتضي وجوب إنقاذ كلّ منالغريقين مطلقا، سواء أنقذ الآخر أم لم ينقذه، وهذا يستلزم التكليف بما ليطاق، لعدم القدرة على إنقاذ كليهما فرضا، فلابدّ من تقييد هذا الإطلاق،فيصير مفاده وجوب إنقاذ زيد مثلاً بشرط عدم إنقاذ عمرو، وبالعكس،فيكون واجبا تخييريّا، كسائر الواجبات التخييريّة، إلاّ أنّ الحاكم بالتخييرهاهنا هو العقل وهناك هو الشرع.
ومسألة تعارض الاستصحابين أو الاستصحابات أيضاً نظير بابالتزاحم، فإنّ إطلاق قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يقتضي المنع من نقضاليقين بالشكّ في هذا الإناء مثلاً مطلقا، سواء نقض في الآخر أم لا، وكذلكبالنسبة إلى الإناء الآخر، فيجري استصحاب طهارة كلّ منهما بمقتضى هذالإطلاق، وحيث إنّه مستلزم لمخالفة قطعيّة عمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال
(صفحه366)
ـ وهو وجوب الاجتناب عن النجس ـ فلابدّ من رفع اليد من هذا الإطلاق،فيصير مفاده بعد التقييد حرمة نقض اليقين بالشكّ في هذا الإناء بشرطالنقض في الآخر، وبالعكس، كما في باب التزاحم.
وبالجملة: إنّ المانع من جريان الاستصحاب في صورة التعارض هوإطلاق دليله، لا أصله، فلا ملزم لطرحه بالكلّيّة والقول بالتساقط، بل يكفيرفع اليد من إطلاقه، وهو معنى التخيير.
وفيه أوّلاً: أنّ ما نحن فيه من موارد العلم الإجمالي، لأنّا نعلم بانتقاضالحالة السابقة في أحد المستصحبين إجمالاً، ويمكن من بداية الأمر دعوى عدمتحقّق الإطلاق في دليل الاستصحاب بحيث يعمّ أطراف العلم الإجمالي ـ لعدمإحراز مقدّمات الحكمة هاهنا التي منها كون المتكلّم في مقام البيان ـ سيّما إذكان شموله لها مستلزما للمخالفة القطعيّة، بخلاف باب التزاحم الذي ليس منموارد العلم الإجمالي، فلا يصحّ قياس المقام به.
وثانيا: أنّا لا نسلّم أن يكون التخيير في باب التزاحم نظير التخييرالشرعي من جميع الجهات، غير أنّ الفرق بينهما في عقليّة التخيير وشرعيّتهفقط، لأنّ المكلّف إن عصى في الواجب التخييري لا يستحقّ إلاّ عقوبةواحدة، بخلاف باب التزاحم، فإنّه لو لم ينقذ زيدا ولا عمرا لاستحقّ عقابين.
إن قلت: كيف يستحقّ عقابين مع عدم قدرته على إنقاذ كليهما؟!
قلت: قوله: «أنقذ الغريق» يشمل كلاًّ منهما، فهو مكلّف بإنقاذ كليهما، إلاّ أنّهإذا صرف قدرته في إنقاذ أحدهما كان في مخالفة التكليف بالنسبة إلى الآخرمعذورا عقلاً، وأمّا إن لم يصرف قدرته أصلاً فلا عذر له في المخالفة، فإنّالمولى يمكن أن يحتجّ عليه بأنّك كنت مكلّفا بإنقاذ زيد ولا عذر لك فيالمخالفة، وأيضاً كنت مكلّفا بإنقاذ عمرو ولا عذر لك في المخالفة، وذلك لأنّك لم