والكلام فيها يقع تارةً: على القول بكون حجّيّة الأمارات ـ ومنها الخبرالواحد ـ من باب الطريقيّة والكاشفيّة، واُخرى: على القول بكونها من بابالسببيّة.
وأيضاً قد يقع الكلام فيها بناء على القول بأنّ الدليل على حجّيّتها هو بناءالعقلاء بضميمة عدم ردع الشارع، وقد يقع بناءً على القول بأنّ الدليل عليههو الأدلّة اللفظيّة من الكتاب والسنّة.
فإن قلنا بأنّ الدليل على حجّيّة الأخبار بناء العقلاء لأجل كونها طريقإلى الواقع ـ كما هو الحقّ ـ فالعقل يحكم في المتكافئين بالتساقط، لوجهين:
عملت بخبره ما لم يخبرك ثقة آخر مثله بوصول الطريق الآخر إليه، وإلاّ تترككلا الخبرين.
الثاني: أنّ الاحتجاج على العبد متوقّف على بيان الحكم ووصوله إلى العبدوعدم معارضته مع بيان آخر مثله، ألا ترى أنّه إذا جاء العبدَ رسول ثقةوأخبره بأنّ المولى يأمرك بفعل كذا، وجائه آخر وأخبره بعدم وجوب ذلكالفعل عليه، وتركه العبد، وكان خبر الرسول الأوّل مطابقا للواقع، لم يكنللمولى عقابه لأجل تركه الواجب؟ وهكذا الأمر لو دلّ خبر على وجوبصلاة الجمعة في عصر الغيبة ودلّ خبر آخر مثله من جميع الجهات على عدموجوبها، فلو تركناها وكانت واجبة في الواقع لما صحّ الاحتجاج علينا.
وبالجملة: حجّيّة كلّ أمارة متوقّفة على عدم معارضتها بأمارة اُخرى.
فالأصل في المتعارضين المتكافئين هو التساقط في مدلولهما المطابقي.
القول في نفي الثالث بالمتعارضين المتكافئين
وهل يمكن نفي الاحتمال الثالث بدلالتهما الالتزاميّة أم لا؟ وعلى فرضحجّيّتهما في نفي الثالث فهل الحجّة كلاهما أو أحدهما؟
وليعلم أنّ البحث إنّما يكون فيما إذا كان الاحتمال الثالث متحقّقا، كما إذا دلّأحد الخبرين على وجوب صلاة الجمعة والآخر على حرمتها، فلكلّ منهمدلالة التزاميّة على نفي احتمال الاستحباب مثلاً، بخلاف ما إذا دلّ أحدهما علىالوجوب والآخر على عدمه، إذ ليس لنا احتمال ثالث غير الوجوب وعدمه.
وأيضاً إنّ البحث إنّما يكون فيما إذا لم يعلم إجمالاً بإصابة أحد الخبرينللواقع، وإلاّ كان نفي الاحتمال الثالث بالعلم، لا بهما.
وبالجملة: فلابدّ لنا البحث في كونهما حجّة في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة
ج6
أوّلاً، وعلى فرض الحجّيّة في أنّ الحجّة هل هي مجموعهما أو الذي يحتملمطابقته للواقع ثانيا؟
فنقول:
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في نفي الثالث بالمتعارضين
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى حجّيّتهما في نفي الثالث، وإلى أنّ الحجّة علىنفيه أحدهما الذي يحتمل إصابته للواقع.
توضيح ذلك: أنّا لا نعلم بصدق أحد الخبرين، بل نحتمل كذبهما معا، لكنّنعلم إجمالاً كذب أحدهما ونحتمل صدق الآخر، والذي يكون حجّة في نفيالثالث إنّما هو الخبر المحتمل صدقه، لا المعلوم كذبه(1).
هذا توضيح ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في نفي الثالث بالمتعارضين
ووافقه المحقّق النائيني رحمهالله في أصل حجّيّتهما في نفي الثالث، لكنّه خالفه فيالنزاع الثاني وذهب إلى كونهما معا حجّةً في عدم الثالث، حيث قال:
وأمّا بالنسبة إلى نفي الثالث فلا وجه لسقوطهما، فإنّ المتعارضين يشتركانفي نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة، فيكونان معا حجّةً في عدم الثالث.
وتوهّم أنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة، وبعد سقوط المتعارضينفي المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث.
فاسد، فإنّ الدلالة الالتزاميّة إنّما تكون فرع الدلالة المطابقيّة في الوجود،لا في الحجّيّة، وبعبارة أوضح: الدلالة الالتزاميّة للكلام تتوقّف على دلالته
(صفحه446)
التصديقيّة، أي دلالته على المؤدّى(1)، وأمّا كون المؤدّى مرادا فهو ممّا ليتوقّف عليه الدلالة الالتزاميّة، فسقوط المتعارضين عن الحجّيّة في المؤدّى ليلازم سقوطهما عن الحجّيّة في نفي الثالث، لأنّ سقوطهما عن الحجّيّة في المؤدّىإنّما كان لأجل التعارض، وأمّا نفي الثالث فلا معارضة بينهما، بل يتّفقان فيه،فلو كان مفاد أحد المتعارضين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكان مفادالآخر حرمة الدعاء في ذلك الوقت، فبالنسبة إلى نفي الكراهة والإباحةوالاستحباب عن الدعاء عند رؤية الهلال يتوافقان(2).
إنتهى كلامه رحمهالله .
وحاصله: إمكان نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة أوّلاً، والحجّة عليه كلاهمثانيا.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويمكن المناقشة في الثاني بأنّ الخبر الذي نعلم كذبه إجمالاً كيف يكونحجّة في دلالته الالتزاميّة؟! ألا ترى أنّه إذا ورد خبر بوجوب صلاة الجمعةونحن نعلم بكذبه تفصيلاً، كما لا يمكن إثبات الوجوب به لا يمكن أيضاً نفيالاستحباب، ولا فرق في ذلك بين ما علم كذبه إجمالاً وبين ما علم كذبهتفصيلاً.
فلا يمكن القول بأنّ الحجّة على نفي الثالث هي كلّ منهما مع العلم بكذبأحدهما إجمالاً، فالحقّ ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ الحجّة عليه هوأحدهما الذي لا يعلم كذبه.
- (1) فيكون الدلالة التصديقيّة عنده رحمهالله بمعنى التصديق بأنّ هذا اللفظ دالّ على ذلك المعنى، سواء كان مرادللمتكلّم أم لا. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 4: 755.