(صفحه470)
في أنّ التخيير بدوي أو استمراري
التنبيه الثالث: هل التخيير بدوي أو استمراري أو فيه تفصيل بين ما إذقلنا باختصاص التخيير بالمجتهد، فيكون بدويّا، وبين ثبوته للمقلّد أيضاً،فيكون استمراريّا؟
وليعلم أنّ المحتاج إلى الإثبات هنا إنّما هو كونه استمراريّا، وأمّا ثبوتالتخيير بدوا فلا يحتاج إلى أزيد من أصل أدلّة التخيير كما هو واضح.
والذي يمكن الاستدلال به على الاستمرار اثنان: نفس أدلّة التخيير،واستصحابه.
مناقشة الشيخ رحمهالله في دلالة أحاديث التخيير على استمراره
واستشكل الشيخ الأعظم رحمهالله على الأوّل بعدم تحقّق الإطلاق في أدلّةالتخيير، لأنّها في مقام بيان أصل التخيير، لا كيفيّته.
وتوضيح كلامه: أنّ السؤال عن كيفيّة التخيير إنّما هو في طول السؤال عنأصله، فإنّ للمكلّف شكّين: أحدهما: الشكّ في وظيفته عند مجيء الخبرينالمتعادلين، وثانيهما: الشكّ في خصوصيّاتها بعد تعيين أصل الوظيفة من كونالتخيير في الأخذ بأحدهما بدويّا أو استمراريّا، ولا إشكال في أنّ السائل فيأدلّة التخيير كان شاكّا في أصل الوظيفة وأنّه لدى تعارض الخبرين المتعادلينما ذا يصنع؟ فإذا اُجيب بأنّه مخيّر في الأخذ بأحدهما ينشأ له شكّ آخر فيكيفيّة التخيير وأنّه دائمي أم لا؟ وهذا موضوع آخر وشكّ ثانٍ مسكوت عنهفي أدلّة التخيير سؤالاً وجوابا.
وبالجملة: تكون روايات التخيير في مقام بيان أصل الوظيفة، لا كيفيّتها(1).
ج6
هذا حاصل ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام.
نقد كلام الشيخ رحمهالله من قبل الإمام الخميني«مدّ ظلّه»
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ في روايات التخييرخبرين يستفاد منهما استمرار التخيير:
أحدهما: ما روي مرسلاً عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليهالسلام قال: قلت:يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: «فإذا لمتعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(1) فإنّه عليهالسلام جعل موضوع التوسعة والتخييرعدم العلم بحقّيّة أحدهما، ومعلوم أنّ المكلّف بعد الأخذ بأحدهما أيضاً ليعلم الحقّ منهما، إذ لا يعقل أن يُعدم الحكم موضوع نفسه(2).
الثاني: ما روي مرسلاً أيضاً عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترىالقائم(3)، فتردّ إليه»(4).
- (1) وسائل الشيعة 27: 121، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
- (2) توضيحه: أنّ تكرار عدم العلم في كلام الإمام عليهالسلام بعد كونه مذكورا في كلام السائل دليل على أنّه تمامالموضوع للحكم بالتخيير، إذ لو لم يكن ذكره لهذه العناية لاكتفى بذكره في كلام السائل ولم يكرّرههو عليهالسلام ، فسؤال السائل وإن كان من جهة الشكّ في أصل الوظيفة، إلاّ أنّ الجواب بإطلاقه يشتمل علىالوظيفة وعلى كيفيّتها.
وهذا على ما ذهبنا إليه من كون التخيير المستفاد من أخبار العلاج من قبيل الأصل العملي، واضح، لأنّموضوع الاُصول العمليّة كلّها عدم العلم والتحيّر في الحكم الواقعي، ولا ريب في أنّ المكلّف بعد الأخذبإحدى الروايتين أيضاً لا يعلم الواقع.
وهكذا على ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» من أنّ التخيير في كلام الشارع تخطئة لبناء العقلاء علىتساقط المتعارضين وحكم بالتخيير عند عدم العلم، فإنّ المكلّف بعد الأخذ بأحدهما في الواقعة الاُولىغير عالم أيضاً بأنّ أيّهما حقّ، وهو موضوع التوسعة والتخيير في رواية الحسن بن الجهم.
فاستفادة الاستمرار واضحة على المذهبين، وإن كانت على مذهبنا أوضح. منه مدّ ظلّه.
- (3) المراد بـ «القائم» في هذه الرواية: القائم بأمر اللّه، فهو يعمّ كلّ إمام معصوم، ولا يختصّ بالمهديّ«عجّلاللّه تعالى فرجه». منه مدّ ظلّه.
(صفحه472)
هذه الرواية أضعف من رواية الحسن بن الجهم من وجه وأقوى منها منوجه آخر:
أمّا أضعفيّتها: فلأنّها لا تكون نصّا في الخبرين المتعارضين، لكن قوله:«كلّهم ثقة» يدلّ على تعدّد الرواية وتعارضها، أمّا التعدّد فلأنّ لفظ «كلّهم»يدلّ على تعدّد الرواة وتعدّدهم يدلّ على كون الرواية أكثر من واحدة، وأمّالتعارض فلأنّه لو لم تكونا متعارضتين لم يكن بينهما ربط، فلم يعقل الحكمبالتوسعة في الروايتين اللتين لا ربط بينهما.
ويدلّ عليه أيضاً قوله عليهالسلام : «فموسّع عليك»، لأنّ الحديث إن كان واحداً أومتعدّدا غير متعارض لم يكن الأخذ بها موجبا للتوسعة، بل للتضييق، لكونهمشتملةً على الأحكام التي في العمل بها كلفة ومشقّة على العبد، بخلاف ما إذكانت روايتين متعارضتين: إحداهما تثبت التكليف، والاُخرى تنفيه، فإنّالتوسعة فيهما بالأخذ بإحداهما معقولة.
وأمّا أقوائيّتها: فلأنّ الغاية المذكورة فيها رؤية الإمام، وهو كالصريح فياستمرار التخيير، بخلاف رواية الحسن بن الجهم، فإنّ الاستمرار فيها إنّما هويستفاد من الإطلاق.
فلا يصغى إلى احتمال كون التوسعة إلى لقائه عليهالسلام في رواية الحارث بنالمغيرة والتوسعة ما لم يعلم في رواية ابن الجهم هي التوسعة في الأخذ ابتداءً لبعد الأخذ، لكن نفي هذا الاحتمال في الاُولى بالنصّ وفي الثانية بالإطلاق(1).
هذا حاصل ما أفاده الإمام«مدّ ظلّه» مع توضيح منّا في المقام.
ولو قلنا بعدم دلالة أخبار التخيير على استمراره فهل يجري استصحابه
- (1) وسائل الشيعة 27: 122، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.
- (2) الرسائل، مبحث التعادل والترجيح: 60.
ج6
أم لا؟
مناقشة الشيخ رحمهالله في جريان استصحاب التخيير ونقده
استشكل الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله فيه بدعوى تغيّر الموضوع، لأنّالثابت سابقا ثبوت التخيير لمن لم يختر، فإثباته لمن اختار إثبات للحكم فيغير موضعه الأوّل(1).
أقول: تارةً: يفرض كون الموضوع في أدلّة التخيير هو ذات المكلّف إذا لميعلم الحقّ، كما هو مفاد رواية ابن الجهم، فإنّ ظاهرها أنّ الحكم بالتوسعةلذات المكلّف، وعدم العلم بالحقّ واسطة لثبوت الحكم له، واُخرى: كونه غيرالعالم بالحقّ بوصفه العنواني، وثالثةً: كونه عنوان المتحيّر في وظيفته، ورابعةً:كونه عنوان من لم يختر لأحدهما(2) كما قال الشيخ رحمهالله .
والتحقيق جريان الاستصحاب في جميع الصور، أمّا في الصورتين الاُوليينفواضح، لبقاء الموضوع فيهما قطعا، أمّا إذا كان ذات المكلّف ـ كما هو الحقّ فمعلوم، وأمّا إذا كان عنوان «غير العالم بأنّ أيّهما حقّ» فلأنّ الأخذ بأحدهما ليجعله عالما بحقّيّة أحدهما.
وأمّا في الصورتين الأخيرتين فلأنّ عنوان «المتحيّر» أو «الذي لم يختر»وإن كانا بحسب المفهوم الكلّي مخالفا لعنوان مقابلهما(3)، لكن مصداقهما إذوجدا في الخارج وصدق عليهما العنوانان يثبت لهما الحكم، فإذا زال العنوانبقي الموضوع قطعا، لأنّ المكلّف الموجود في الخارج إذا زال عنه عنوان
- (2) هذا الاحتمال الرابع أضعف الاحتمالات. منه مدّ ظلّه.
- (3) والثابت بعد الاختيار هو العنوان المقابل، إذ التحيّر بعد الاختيار تبدّل إلى عدم التحيّر، وعدم الاختيارإلى الاختيار. م ح ـ ى.
(صفحه474)
«المتحيّر» أو عنوان «من لم يختر لأحدهما» لا ينقلب عمّا هو عليه عرفا،فيكون إثبات حكم التخيير له بالاستصحاب إبقاء للحكم السابق، لا إسراءمن موضوع إلى موضوع آخر.
وبعبارة اُخرى: الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة هو المكلّفالخارجي، لا العنوان الكلّي المأخوذ في الأخبار، فيتّحد القضيّتان، لأنّا نقول:هذا المكلّف الموجود في الخارج كان مخيّرا، والآن نشكّ في بقاء تخييره،فيستصحب.
نعم، عنوان «التحيّر» و «عدم الاختيار» كان سببا لثبوت الحكم في القضيّةالمتيقّنة، كما أنّ زوالهما سبب لتحقّق الشكّ في بقاء الحكم، وهذا الشكّ ناشٍعن الشكّ في أنّ التحيّر وعدم الاختيار هل هما مؤثّران في حدوث الحكمفقط أو في حدوثه وبقائه، فيستصحب التخيير ويكشف عن كونهما مؤثّرينحدوثا فقط.
كما أنّ الماء إذا زال تغيّره من قبل نفسه، فشككنا في بقاء نجاسته ـ وكانهذا الشكّ ناشئا عن الشكّ في أنّ التغيّر هل كان مؤثّرا في حدوث الحكمبالنجاسة فقط أو فيه وفي البقاء ـ يستصحب النجاسة ويكشف عن كونالتغيّر مؤثّرا حدوثا فقط.
فالحاصل: أنّ استصحاب التخيير جارٍ على جميع الصور الأربع، لاتّحادالقضيّة المتيقّنة مع المشكوكة.
فالتخيير في المقام استمراري، لإطلاق أدلّته، وعلى فرض عدم تحقّقالإطلاق، لأجل الاستصحاب.
عدم شمول الأخبار العلاجيّة لاختلاف النسخ