ج6
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران [إلى] من كان منكم ممّن قد روىحديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما، فإنّي قدجعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّهوعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه.
قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونالناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم(1)؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما،ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما علىالآخر؟ قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما بهالمجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليسبمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمربيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلىرسوله، قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن تركالشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلكمن حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكما(2) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ بهويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.
- (1) هل المراد بالاختلاف في الحديث: الاختلاف في أصل وجوده، أو في معناه، أو أنّ كلاًّ منهما استند فيحكمه إلى حديث غير ما استند إليه الآخر؟ الظاهر هو الأخير. منه مدّ ظلّه.
- (2) قال المجلسي رحمهالله : قوله عليهالسلام : «عنكما» أي الباقر والصادق عليهماالسلام ، وفي الفقيه: «عنكم» وهو أظهر. مرآةالعقول 1: 225، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
(صفحه484)
قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّةووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذبالآخر.
قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟
قال: إذا كان ذلك فأرجه(1) حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهاتخيرٌ من الاقتحام في الهلكات»(2).
أقول: لا إشكال في أنّ صدر هذه الرواية ظاهر بل صريح في كون السؤالعن الشبهة الموضوعيّة، مثل تنازع زيد وعمرو بأن يقول زيد لعمرو: «إنّ ليعليك مأة درهم» وهو ينكره، ومثل أن يتنازعا في ميراث، فقال زيد: «هولي» وقال عمرو: «بل هو لي».
ولا يصحّ القول بأنّ السؤال عن الشبهة الحكميّة، لأنّ المرجع فيها هوالفقيه، لا السلطان أو القاضي، سيّما أنّ الراوي فرض الرجلين المتنازعين منالأصحاب، إذ عدم صحّة رجوعهما إلى السلطان الجائر أو إلى القاضيالمنصوب من قبله لأخذ الحكم الكلّي معلوم، فلا مورد لسؤاله عن حلّيّة
- (1) قال المجلسي رحمهالله : قوله عليهالسلام : «فأرجه»: بكسر الجيم والهاء، من «أرجيت الأمر» بالياء أو من «أرجأتالأمر» بالهمزة، وكلاهما بمعنى «أخّرته» فعلى الأوّل حذفت الياء في الأمر، وعلى الثاني اُبدلت الهمزةياءً ثمّ حذفت، و«الهاء» ضمير راجع إلى الأخذ بأحد الخبرين. مرآة العقول 1: 226، كتاب فضل العلم،باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
- (2) الكافي 1:67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10، ومن لا يحضره الفقيه 3: 8 ، أبوابالقضايا والأحكام، باب الاتّفاق على عدلين في الحكومة، الحديث 3233، وتهذيب الأحكام 6: 262،كتاب القضايا والأحكام، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، الحديث 52، ووسائل الشيعة 27: 106،كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
ج6
رجوعهما إليهما لأخذ الفتوى والحكم الشرعي الكلّي منهما.
كلام المحقّق الرشتي رحمهالله في مدلول المقبولة
لكن ذهب الميرزا حبيب اللّه الرشتي رحمهالله إلى كون الرواية واردةً مورد الشبهةالحكميّة ولا ربط لها بالقضاء، لأنّ اختيار كلّ من المتخاصمين رجلاً منالأصحاب لأجل القضاوة لا يمكن إلاّ على وجوه ثلاثة: أحدهما: أن يحكممعا ويقولا: حكمنا بهذا، الثاني: أن يكون الحَكَم أحدهما ولكنّ الآخر يعينهفي مقدّمات الحكم، فالأوّل يشاور الثاني ثمّ يحكم، الثالث: أن يكون أحدهمحاكما والآخر منفّذا للحكم، فيقول الأوّل: حكمت بكذا، والثاني: أنفذت هذالحكم، وكلّها خلاف ظاهر الرواية، فإنّ ظاهرها اختيار كلّ من المتنازعينحاكما ليكون مستقلاًّ في القضاء، وهذا غير معقول، لعدم رفع الخصومة به.
فلابدّ من حمل الحكم في الرواية على معناه اللغوي، وهو الفتوى،كما في قوله تعالى: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـآلـءِكَ هُمُالْفَـسِقُونَ»(1) أي من لم يفت بما أنزل اللّه.
فحاصل مضمون الرواية أنّ كلّ واحد من الرجلين اختار رجلاً منالمجتهدين ليفتي فيما وقع بينهما الاختلاف من حكم اللّه تعالى، وحيث إنّ الإفتاءكان في ذلك الزمان بالروايات ذكر كلّ منهما في مقام الفتوى روايةً مخالفةًللرواية التي ذكرها الآخر.
ثمّ ذكر قرينةً اُخرى على كون الرواية مربوطة بالشبهة الحكميّة، وهيقوله عليهالسلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهم إلخ» فإنّ المتنازعين لا صلاحيّة(2)، بل
- (2) لكونهما من العوامّ غالبا، ولا تتمكّن العوامّ من النظر حول الروايات. منه مدّ ظلّه.
(صفحه486)
لا حقّ لهما أن ينظرا إلى مدرك حكم القاضي، فراجع إلى وجدانك لتعلم أنّههل يجوز لأحد من المتخاصمين بعد صدور الحكم من قبل القاضي أن يقولله: أيّها القاضي ما مدرك هذا الحكم؟!
على أنّ الحَكَمين إن صدر الحكم منهما في زمان واحد تساقطا، وإن تقدّمأحدهما على الآخر فالحكم ما حكم به الأوّل ولا يعتدّ ـ بحسب موازين بابالقضاء ـ إلى حكم المتأخّر، فإذا كان هذا ميزان باب القضاء فما معنى النظر إلىمأخذ حكمهما عند اختلافهما في الحكم؟!
فلابدّ من حمل هذه الرواية من أوّلها إلى آخرها إلى باب الفتوى ونقلالرواية(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله مع توضيح منّا، وعليه يكون جميع المرجّحاتالمذكورة فيها حتّى الأعدليّة وأمثالها من مرجّحات باب الرواية.
نقد ما اختاره الميرزا الرشتي رحمهالله في مفاد المقبولة
أقول: إنّ المحقّق الرشتي رحمهالله و إن تأمّل في الرواية كمال التأمّل والدقّة، لكنّه رحمهالله كأن لم ينظر إلى صدرها(2)، فإنّ حمل صدرها على الشبهة الحكميّة ممّا لا يمكن،لأنّ التحاكم إلى السلطان أو إلى القضاة إنّما هو التحاكم إلى القدرة، وهو ليتصوّر إلاّ في المنازعة في الموضوعات، لأنّ النزاع في الحكم الشرعي مرجعهإنّما هو الفقيه العالم بحكم اللّه، لا السلطان والقاضي كما هو واضح.
فصدر الرواية ظاهر بل صريح في الشبهة الموضوعيّة، بل لا يمكن حمله علىالشبهة الحكميّة، وكذا لسائر فقرات الحديث إلى قوله: «لا يلتفت إلى ما يحكم
- (2) قطّع صاحب الوسائل رحمهالله هذه الرواية فلم يذكر صدرها، ولعل المحقّق الرشتي رحمهالله أخذها من الوسائلفغفل عن صدرها الصريح في القضاء ورفع الخصومة. منه مدّ ظلّه.
ج6
به الآخر» ظهور قويّ في أنّ الحكم بمعنى القضاء ورفع الخصومة.
فلا ريب في أنّ الترجيح بالأعدليّة(1) وأمثالها في المقبولة مربوط بحكمالحاكمين لا بفتوى الفقيهين أو تعارض الخبرين.
ويشهد له حديثان آخران:
أحدهما: ما رواه الصدوق بإسناده عن داود بن الحصين، عن أبي عبداللّه عليهالسلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيهخلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟قال: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما، فينفذ حكمه، ولا يلتفتإلى الآخر»(2).
الثاني: ما رواه الشيخ رحمهالله بإسناده عن موسى بن اكيل، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال: سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ، فيتّفقان علىرجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا فيما حكما، قال: وكيف يختلفان؟ قال:حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان، فقال: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههمفي دين اللّه، فيمضى حكمه»(3).
فإنّ الروايتين تدلاّن على نفوذ حكم الأفقه الأعلم الأورع، وعلى نفوذحكم الأعدل الأفقه، ومضمونهما عين مضمون المقبولة، ومع ذلك لم يستدلّوبهما على الترجيح في باب تعارض الروايتين، وليس ذلك إلاّ لعدم ربطهما بمنحن فيه، فكذا الحال في المقبولة.
فالترجيح بصفات الإنسان ـ من الأعدليّة وأمثالها ـ مربوط بباب القضاء
- (1) وهل كلّ من الأعدليّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة مرجّح مستقلّ أو مجموعها مرجّح واحد؟للبحث عنه محلّ آخر، وهو كتاب القضاء من الفقه. منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 27: 113، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
- (3) وسائل الشيعة 27: 123، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.