ج6
يعتدّ به العقلاء ويرونه بالإضافة إلى الخبر الشاذّ ممّا لا ريب فيه.
وعلى هذا فكان بيّن الرشد أيضاً بالإضافة إلى الخبر الشاذّ، لا مطلقا.
وثانيا: تثليث الاُمور دليل على أنّ له عليهالسلام عناية بالأمر الثالث منها، فالخبرالمشهور وإن كان داخلاً في «بيّن الرشد» إلاّ أنّ الخبر الشاذّ لا يكون داخلاً في«بيّن الغيّ» بل في «المشكل الذي يردّ علمه إلى اللّه وإلى الرسول» وإلاّ لقال:«إنّما الاُمور اثنان: بيّن رشده فيتّبع، وبيّن غيّه فيجتنب» إذ لا حاجة إلى القسمالثالث، سيّما مع تحقّق عناية خاصّة في ذيل تثليث النبيّ صلىاللهعليهوآله بالأمر الثالث، وهوقوله صلىاللهعليهوآله : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات ارتكبالمحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» فهذا شاهد على كون الخبر الشاذّ داخلفي «المشكل الذي يردّ علمه إلى اللّه وإلى الرسول» في تثليث الإمام عليهالسلام وفي«الشبهات بين ذلك» في تثليث النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وثالثا: لو كان المراد بنفي الريب عن الخبر المشهور نفيه مطلقا لم يعقل كونالخبرين المتعارضين كليهما مشهورين كما فرضه ابن حنظلة وقرّره الإمام عليهالسلام ،لعدم إمكان أن يكون مضمون هذا الخبر المشهور حكم اللّه الواقعي وكذمضمون ذاك الخبر المشهور المعارض له، فلا محالة يكون نفي الريب عن الخبرالمشهور وكذا كونه بيّن الرشد إنّما هما إذا قيس إلى الخبر الشاذّ المعارض له، لمطلقاً حتّى يعمّ ما إذا كانت الشهرة على طبق كليهما.
نعم، هذا مستلزم لأن يطلق قوله عليهالسلام : «أمر بيّن رشده» على معنيين:أحدهما: أمر بيّن رشده مطلقا، والثاني: أمر بيّن رشده بالإضافة إلى أمرآخر، وهو خلاف ظاهره.
فإنّ ظاهره هو المعنى الأوّل فقط، إلاّ أنّه لا إشكال في رفع اليد عن هذالظهور لأجل القرائن الثلاثة التي ذكرناها.
(صفحه494)
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الشهرة الفتوائيّة من مرجّحات بابالرواية.
إن قلت: إنّها أيضاً من مرجّحات باب الحكم والقضاء، لقوله عليهالسلام : «ينظرإلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابكفيؤخذ به من حكمنا» فإنّه دالّ على وجوب الأخذ بالحكم الذي كان مدركهالخبر المشهور، ولا دلالة فيه على وجوب الأخذ بنفس الخبر المشهور.
قلت: كلاّ، فإنّه عليهالسلام بصدد بيان ترجيح الخبر بالشهرة، وذكر الحكم إنّما هومن باب ذكر النتيجة في مورد الرواية(1)، فكأنّه قال: يجب الأخذ بالخبرالمشهور، فالحكم الذي مدركه كذلك يجب الأخذ به.
فمقتضى المقبولة وجوب الأخذ بالخبر المشهور من بين المتعارضين، سواءاُخذ مدركا للحكم أو للفتوى.
فأوّل المرجّحات المستفادة من المقبولة: هو الشهرة الفتوائيّة عندنا(2).
وثانيها: هو موافقة الكتاب والسنّة.
وثالثها: هو مخالفة العامّة.
لا يقال: إنّ الترجيح بالأخيرين إنّما هو فيما إذا كان الخبران كلاهممشهورين، لوقوعه عقيب فرض ابن حنظلة إيّاهما كذلك، فلا يمكن الترجيحبهما فيما إذا كان الخبران كلاهما على خلاف الشهرة.
فإنّه يقال: وإن فرضهما ابن حنظلة مشهورين، إلاّ أنّ الترجيح بموافقةالكتاب ومخالفة العامّة لم يرد لأجل كونهما مشهورين، بل لأجل عدم كونالشهرة مرجّحة، فكلّما لم نتمكّن من الترجيح بالشهرة ـ سواء كان لكونهم
- (1) أي في مورد المقبولة، فإنّ موردها هو الحكم والقضاء كما عرفت. م ح ـ ى.
- (2) وأمّا عند الإمام الخميني«مدّ ظلّه» فأوّلها موافقة الكتاب، لكون الشهرة عنده مما يتميّز به الحجّة عناللاحجّة. م ح ـ ى.
ج6
مشهورين، أو لكونهما على خلاف الشهرة ـ تصل النوبة إلى الترجيح بموافقةالكتاب ومخالفة العامّة.
على أنّه لم يقل أحد بالفصل، بل كلّ من قال بالترجيح بهما في الخبرينالمشهورين قال به في الخبرين المخالفين للشهرة أيضاً، وكلّ من لم يقلبالترجيح بهما في الخبرين المخالفين للشهرة لم يقل به في الخبرين المشهورينأيضاً.
فالحاصل: أنّه لا إشكال في سند المقبولة، وأمّا دلالتها فهي تدلّ علىالترجيح بالشهرة الفتوائيّة، ثمّ بموافقة الكتاب والسنّة، ثمّ بمخالفة العامّة، ولدلالة فيها على الترجيح بصفات الراوي أصلاً.
هذا تمام الكلام في مقبولة عمر بن حنظلة.
البحث حول مرفوعة زرارة
وأمّا مرفوعة زرارة: فهي الرواية المنقولة عن عوالي اللئالي، قال: روىالعلاّمة مرفوعا إلى زرارة بن أعين قال: سألت الباقر عليهالسلام فقلت: جعلت فداك،يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ قال عليهالسلام : «يا زرارةخذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر، فقلت: يا سيّدي إنّهما معمشهوران مرويّان مأثوران عنكم، فقال عليهالسلام : خُذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهمفي نفسك، فقلت: إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان، فقال عليهالسلام : اُنظر ما وافقمنهما مذهب العامّة فاتركه وخُذ بما خالفهم، قلت: ربما كانا معا موافقين لهم أومخالفين، فكيف أصنع؟ فقال: إذن فخُذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالفالاحتياط، فقلت: إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟فقال عليهالسلام : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»(1).
(صفحه496)
هذه الرواية صريحة في أنّ الأعدليّة والأوثقيّة أيضاً من المرجّحات.
لكنّ الإشكال في سندها، فإنّها مرسلة في غاية الضعف من غير جابر لها،وتمسّك من تأخّر عن ابن أبي الجمهور(1) بها لا يفيد جبرها، فإنّ الشهرةالفتوائيّة بين القدماء جابرة لضعف سند الرواية، لأنّهم كانوا قريبي العهدبأصحاب الاُصول والجوامع، وكانت عندهم اُصول لم تكن عند المتأخّرين،فلا قيمة للشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين من حيث جبر سند رواية بها.
فما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري من جبر سند المرفوعة بعمل العلماء(2)ليس على ما ينبغي.
فتحصّل إلى هنا أنّ مرجّحات باب الرواية ثلاثة: موافقة الشهرة، وموافقةالكتاب، ومخالفة العامّة، ولو تأمّلت في المقبولة لعرفت أنّها ظاهرة في وجوبالترجيح بهذه الثلاثة كمال الظهور.
وإلى هنا ظهر دفع الإشكال في دلالة أخبار الترجيح على الوجوب بأنّحمله على الوجوب مستلزم لحمل أخبار التخيير على فرد نادر(3).
فإنّ تقييد أخبار التخيير بهذه القيود الثلاثة لا يستلزم حملها على فرد نادركما هو واضح.
الجواب عن الإشكال الثاني
وأمّا الإشكال في دلالتها على الوجوب بالاختلافات الكثيرة في نفسها(4):فجوابه متوقّف على ملاحظة أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة،
- (1) مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
- (2) ابن أبي الجمهور: مؤلّف كتاب عوالي اللئالي الذي رويت المرفوعة فيه. م ح ـ ى.
- (3) راجع فرائد الاُصول 4: 68.
- (4) تقدّم طرح هذا الإشكال في ص488.
- (5) تقدّم طرح هذا الإشكال أيضاً في ص489.
ج6
فنقول: لابدّ لنا من عقد بحثين:
الأحاديث الواردة حول الخبر الموافق للكتاب والمخالف له
البحث الأوّل: في حال الأخبار الواردة في موافقة الكتاب ومخالفته، وهيعلى كثرتها طائفتان:
الطائفة الاُولى: ما وردت في مطلق ما وافق الكتاب وخالفه من غيرتعرّض لتعارض الخبرين، فهي في مقام تمييز الحجّة عن اللاحجّة، لا في مقامترجيح حجّة على اُخرى.
الطائفة الثانية: ما وردت في الحديثين المتعارضين، وهي في مقام الترجيح.
فمن الاُولى: موثّقة السكوني، وهو ما عن الكليني بإسناده عن السكونيعن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال: «قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : إنّ على كل حقّ حقيقةً(1) وعلىكلّ صواب نورا(2)، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّهفدعوه»(3).
ومنها: خبر أيّوب بن الحرّ، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليهالسلام يقول: «كلّ شيءمردود إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف»(4).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في المقام، فراجع.
والمراد بقوله عليهالسلام : «لا يوافق كتاب اللّه» كونه مخالفا له، وإلاّ فكثير منالأخبار متضمّن لأحكام لم يتعرّضها القرآن أصلاً، كقوله عليهالسلام : «إذا لم تدرأثنتين صلّيت أم أربعا، ولم يذهب وهمك إلى شيء فتشهّد وسلّم ثمّ صلّ
- (1) أي علامةً يعرف بها حقّيّته. منه مدّ ظلّه.
- (2) أي نورا يعرف به كونه صوابا. منه مدّ ظلّه.
- (3) وسائل الشيعة 27: 109، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
- (4) وسائل الشيعة 27: 111، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.