الذي كان نجساً لو استصحب النجاسة واجتنب عنه لا يفوت عنه الواقعقطعاً، كما أنّ الشاكّ في حرمة شرب التتن لو احتاط واجتنب عنه لا يفوتعنه الواقع.
لكن يشكل هذا الاحتمال بأنّ استصحاب الطهارة ونحوه لا يكون تحفّظعلى الواقع لو كان نجساً واقعاً.
الرابع: أن يكون دليلاً عقليّاً من العقليّات غير المستقلّة، أي التي تنتهي إلىالحكم الشرعي لا بالاستقلال، بل بضمّ مقدّمة شرعيّة، كالحكم بالملازمة بينوجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك، فالعقل ـ بناءً على كونالاستصحاب دليلاً عقليّاً ـ يحكم بالملازمة بين وجوب صلاة الجمعة مثلشرعاً في زمن الحضور وبين وجوبها كذلك في زمن الغيبة.
فعلى الأوّل نبحث في باب الاستصحاب في كونه أصلاً عمليّاً ووظيفةمقرّرة للشاكّ في شيء العالم بحالته السابقة، وعلى الثاني نبحث في حجّيّتهبعنوان كونه طريقاً إلى الواقع، وعلى الثالث نبحث فيها بعنوان كونه أصلعمليّاً للشاكّ ووظيفةً مقرّرةً له لأجل التحفّظ على الواقع، وعلى الرابع نبحثفي أنّ العقل هل يحكم بالملازمة بين ثبوت الحكم في الحالة السابقة وبقائه فيالحالة اللاحقة أم لا؟
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ تعريف الاستصحاب يختلف حسب اختلافهذه الاحتمالات الأربع، ولا يمكن أن يعرّف بتعريف واحد ملائملكلّها.
قال الشيخ رحمهالله في الرسائل: عرّف الاستصحاب بتعاريف أسدّها وأخصره«إبقاء ما كان»(1).
(صفحه8)
أقول: هذا التعريف يناسب القول بكونه أصلاً عمليّاً، سواء كان بمعنىحكم الشارع ببقاء ما كان، أو بمعنى إبقاء المكلّف ما كان في مقام العمل.
وأمّا على القول بكونه طريقاً إلى الواقع فلا يصحّ هذا التعريف، لأنّ حكمالشارع ببقاء ما كان نظير حكمه بوجوب تصديق العادل في باب حجّيّة خبرالواحد، فكما أنّ حكمه بوجوب التصديق هناك لا يكون طريقاً إلى الواقع(1)كذلك حكمه ببقاء ما كان هاهنا أيضاً لا يكون طريقاً إليه، والإبقاء العمليالذي هو وظيفة المكلّف يكون نظير عمله بالخبر الواحد، فكما أنّ العمل بقولالعادل في مسألة حجّيّة الخبر الواحد لا يكون طريقاً فالإبقاء العملي هاهنأيضاً لا يكون كذلك، فلا يصحّ تعريف الاستصحاب ـ بناءً على كونه أمارةعلى الواقع ـ بـ «إبقاء ما كان» سواء فسّر بحكم الشارع بالبقاء أو بإبقاءالمكلّف عملاً، لعدم كون واحد منهما طريقاً إلى الواقع.
فلابدّ من تعريفه ـ بناءً على كونه أمارةً ـ بـ «اليقين الملحوق بالشكّ»(2) أو«كون الشيء في السابق»(3)، لأنّهما يفيدان الظنّ ويكشفان عن الواقع، كما أنّالخبر الواحد يكشف عنه، لإفادته الظنّ.
وأمّا على القول بكونه أصلاً لأجل التحفّظ على الواقع فلابدّ من تعريفهبـ «الشكّ المسبوق باليقين»، لأنّ هذا الشكّ حجّة على المكلّف ومنجّز للواقععليه بناءً على هذا الاحتمال.
وأمّا على القول بكونه حكماً عقليّاً غير مستقلّ فالاستصحاب هو«الملازمة بين كون الشيء سابقاً وكونه لاحقاً»، لأنّها هي ما حكم به العقلبناءً على هذا الاحتمال.
- (1) بل الطريق هو نفس خبر العادل. م ح ـ ى.
- (2) الملاك في هذا التعريف هو اليقين. منه مدّ ظلّه.
- (3) الملاك في هذا التعريف هو المتيقّن الذي عبّر عنه فيه بـ «الشيء». منه مدّ ظلّه.
ج6
والشاهد على عدم إمكان تعريف واحد له جامع لجميع الأقوالوالاحتمالات أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله أيضاً قال في حاشيته على الفرائد: لا يخفىأنّ حقيقة الاستصحاب وماهيّته يختلف بسب اختلاف وجه حجّيّته، وذلكلأنّه إن كان معتبراً من باب الأخبار(1) كان عبارة عن حكم الشارع ببقاء ملم يعلم ارتفاعه، وإن كان من باب الظنّ كان عبارة عن ظنّ خاصّ به، وإنكان من باب بناء العقلاء عليه عملاً تعبّداً كان عبارةً عن التزام العقلاء به فيمقام العمل، ولا يخفى مخالفة كلّ واحد منها مع الآخر بمثابة لا يكاد أن يحويهجامع عبارة خالية عن فساد استعمال اللفظ في معنيين بلا تعسّف وركاكة(2)،إنتهى.
وهذا الكلام وإن كان بعض فقراته محلّ إشكال يظهر ممّا سبق منّا آنفاً إلأنّه شاهد على موافقة المحقّق الخراساني رحمهالله إيّانا في عدم إمكان تعريف جامعلجميع الأقوال والاحتمالات في الاستصحاب.
الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري رحمهالله
ثمّ إنّ للشيخ الأعظم رحمهالله هاهنا مطالب غير تامّة، لورود الإشكالعلى بعضها في نفسه، وعلى بعضها الآخر بملاحظة الجمع بينه وبينكلام آخر له رحمهالله :
الأوّل: أنّه رحمهالله جعل النزاع الواقع بين الاُصوليّين في حجّيّة الاستصحاب(3)،مع أنّه لا يمكن الجمع بينه وبين تعريفه بـ «إبقاء ما كان» الذي جعله أسدّالتعاريف(4)، سواء كان الإبقاء بمعنى عمل المكلّف على طبق ما كان أو بمعنى
- (1) يعني كونه أصلاً عمليّاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) حاشية كتاب فرائد الاُصول: 171.