ج6
والشاهد على عدم إمكان تعريف واحد له جامع لجميع الأقوالوالاحتمالات أنّ المحقّق الخراساني رحمهالله أيضاً قال في حاشيته على الفرائد: لا يخفىأنّ حقيقة الاستصحاب وماهيّته يختلف بسب اختلاف وجه حجّيّته، وذلكلأنّه إن كان معتبراً من باب الأخبار(1) كان عبارة عن حكم الشارع ببقاء ملم يعلم ارتفاعه، وإن كان من باب الظنّ كان عبارة عن ظنّ خاصّ به، وإنكان من باب بناء العقلاء عليه عملاً تعبّداً كان عبارةً عن التزام العقلاء به فيمقام العمل، ولا يخفى مخالفة كلّ واحد منها مع الآخر بمثابة لا يكاد أن يحويهجامع عبارة خالية عن فساد استعمال اللفظ في معنيين بلا تعسّف وركاكة(2)،إنتهى.
وهذا الكلام وإن كان بعض فقراته محلّ إشكال يظهر ممّا سبق منّا آنفاً إلأنّه شاهد على موافقة المحقّق الخراساني رحمهالله إيّانا في عدم إمكان تعريف جامعلجميع الأقوال والاحتمالات في الاستصحاب.
الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري رحمهالله
ثمّ إنّ للشيخ الأعظم رحمهالله هاهنا مطالب غير تامّة، لورود الإشكالعلى بعضها في نفسه، وعلى بعضها الآخر بملاحظة الجمع بينه وبينكلام آخر له رحمهالله :
الأوّل: أنّه رحمهالله جعل النزاع الواقع بين الاُصوليّين في حجّيّة الاستصحاب(3)،مع أنّه لا يمكن الجمع بينه وبين تعريفه بـ «إبقاء ما كان» الذي جعله أسدّالتعاريف(4)، سواء كان الإبقاء بمعنى عمل المكلّف على طبق ما كان أو بمعنى
- (1) يعني كونه أصلاً عمليّاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) حاشية كتاب فرائد الاُصول: 171.
(صفحه10)
الحكم بالبقاء.
أمّا الأوّل: فلأنّ البحث عن حجّيّة عمل المكلّف غير معقول.
وأمّا الثاني: فلوضوح عدم كون النزاع في باب الاستصحاب في حجّيّةحكم الشارع ببقاء ما كان، فإنّه لو حكم به لما شكّ في حجّيّته أحد، وهكذا ليكون النزاع هاهنا في حجّيّة حكم العقل بالبقاء.
وبالجملة: بين تعريف الاستصحاب بـ «إبقاء ما كان» وجعل النزاع فيحجّيّته تهافت وتناقض، سواء فسّرنا الإبقاء بالإبقاء العملي من المكلّف أوبحكم الشارع أو العقل بالبقاء.
نعم، لو قلنا بكونه أمارة إلى الواقع وعرّفناه بـ «اليقين الملحوق بالشكّ»، أوقلنا بكونه أصلاً للتحفّظ عليه وعرّفناه بـ «الشكّ المسبوق باليقين» فلا بأسحينئذٍ بجعل البحث في حجّيّته، لأنّ معنى الحجّيّة ـ كما قلنا كراراً ـ هوالمنجّزيّة في صورة الإصابة والمعذّريّة في صورة الخطأ، ولا مانع من أن يقعالنزاع في أنّ «اليقين الملحوق بالشكّ» هل هو منجّز ومعذّر في زمن الشكّ أملا؟ وأيضاً لا مانع من أن يقع النزاع في أنّ مجرّد «الاحتمال المسبوق باليقين»هل هو منجّز أم لا؟
والنزاع الأوّل يكون كالنزاع في حجّيّة الخبر الواحد، والثاني كالنزاع فيحجّيّة الشكّ في الشبهات البدويّة الذي قال الأخباريّون بحجّيّته ووجوبالاحتياط، وقال الاُصوليّون بعدمها وجريان البراءة.
الثاني: أنّه رحمهالله ذهب إلى كون الاستصحاب مسألة اُصوليّة.
ولا يمكن أيضاً الجمع بين تعريف الاستصحاب بـ «إبقاء ما كان» وبينجعله من المسائل الاُصوليّة لو فسّرنا الإبقاء بالجري العملي من المكلّف على
ج6
طبق ما كان، لأنّ الضابط في كون مسألة اُصوليّة أن يجعل نتيجتها كبرىقياس يستنبط منه حكم شرعي، وعمل المكلّف على طبق الحالة السابقة لدخل له في تشكيل القياس لاستنباط الحكم أصلاً.
نعم، لو فسّرنا الإبقاء بحكم الشارع بالبقاء يكون الاستصحاب مسألةاُصوليّة، لإمكان تشكيل القياس حينئذٍ، بأن نقول: «بقاء وجوب صلاةالجمعة في زمن الغيبة مشكوك فيه، والشارع حكم ببقاء ما كان» فينتج أنّصلاة الجمعة في زمن الغيبة واجبة.
كما أنّا لو جعلناه أمارةً وعرّفناه بـ «اليقين الملحوق بالشكّ» أو جعلناهأصلاً للتحفّظ على الواقع وعرّفناه بـ «الشكّ المسبوق باليقين» يكون مسألةاُصوليّة، لكون البحث عن حجّيّته على الأوّل نظير البحث عن حجّيّة الخبرالواحد، وعلى الثاني نظير البحث عن حجّيّة الشكّ في الشبهات البدويّة الذيذهب الأخباريّون إلى حجّيّته ووجوب الاحتياط، والاُصوليّون إلى عدمحجّيّته وجريان البراءة.
والفرق بين المسألة الاُصوليّة والفقهيّة أنّ الاُولى لا تكون هدفاً للمجتهد،بل هي آلة لاستنباط الحكم الشرعي، وأمّا الثانية فهي غرض نهائي له،وبعبارة أخصر: القاعدة الاُصوليّة «ما به(1) ينظر» والقاعدة الفقهيّة«ما فيه ينظر».
إجراء المسائل الاُصوليّة يختصّ بالمجتهد
الثالث: قال رحمهالله : إنّ من مختصّات المسألة الاُصوليّة أن يكون إجرائها فيمواردها مختصّاً بالمجتهد، وأن لا يكون للمقلّد حظّ فيه، فالاستصحاب مثل
- (1) أي بتوسّطه. منه مدّ ظلّه.
(صفحه12)
مسألة اُصوليّة، لأنّ العامّي لا يتمكّن من إجرائه في مورده، لأنّ موضوعهالشكّ في الحكم الواقعي، وهو لا يتمكّن من تشخيص موارد الشكّ، لأنّا لنريد منه الشكّ مطلقاً، بل الشكّ بعد الفحص الذي هو موضوع الاستصحاب،وحيث إنّ العامّي لا يقدر على الفحص، فلا يتمكّن من تشخيص موارد الشكّالمعتبر في موضوع الاستصحاب، فلا يتمكّن من إجرائه في موارده(1). هذحاصل ما أفاده في هذه المسألة.
وفيه: أنّ إجراء كثير من المسائل الفقهيّة والقواعد الفرعيّة في مواردها أيضيختصّ بالمجتهد، كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، فإنّها قاعدةفرعيّة دالّة على أنّ كلّ معاملة يضمن بصحيحها يضمن بفاسدها، ومع ذلك ليتمكّن من إجرائها إلاّ المجتهد، لعدم قدرة العامّي على تشخيص مصاديق «ميضمن بصحيحه» كي يتمكّن من الحكم بضمان فاسده، فإنّه لا يطّلع على أنّالبيع مثلاً هل يضمن بصحيحه أم لا؟ بل تشخيص بعض مصاديقه صعب علىالمجتهد فضلاً عن المقلّد، كالبيع بلا ثمن والإجارة بلا اُجرة، فإنّ الاطّلاع علىأنّهما هل هما من مصاديق القاعدة أم لا مشكل جدّاً، وهكذا تشخيص أنّههل هي مختصّة بالاُجرة ومنفعة العين المستأجرة أو تعمّ نفس العين المستأجرةأيضاً مشكل.
وقاعدة «لا ضرر» أيضاً قاعدة فقهيّة، ومع ذلك إجرائها في مواردهيحتاج إلى الاجتهاد، ولا يكون للعامّي حظّ فيه، فجعل هذا من مختصّاتالمسائل الاُصوليّة لا يتمّ.
هل الاستصحاب من مصاديق الأدلّة الأربعة أم لا؟
ج6
الرابع: يمكن المناقشة فيما أورده على السيّد بحر العلوم.
كلام العلاّمة بحر العلوم رحمهالله في المقام
بيان ذلك أنّ السيّد العلاّمة بحر العلوم قدسسره جعل الاستصحاب دليلاً علىالحكم في مورده، وجعل قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» دليلاً على الدليل،نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الثقة(1).
مناقشة الشيخ الأنصاري رحمهالله في نظريّة بحر العلوم
واستشكل عليه الشيخ الأعظم رحمهالله بأنّ معنى الاستصحاب الجزئي في الموردالخاصّ ـ كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ـ ليس إلاّ الحكم بثبوت النجاسة فيذلك الماء النجس سابقاً، وهل هذا إلاّ نفس الحكم الشرعي؟ وهل الدليلعليه إلاّ قولهم عليهمالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ»؟ وبالجملة: فلا فرق بينالاستصحاب وسائر القواعد المستفادة من العمومات(2)، إنتهى.
نقد كلام الشيخ رحمهالله في المسألة
أقول: المناقشة في كلام الشيخ رحمهالله تتوقّف على مقدّمة:
وهي أنّا لو قلنا بأنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعةفالاستصحاب داخل في أيّ منها؟ هل هو من مصاديق الكتاب أو السنّة أوالعقل أو الإجماع؟
- (1) فإنّه قدسسره قال ـ على ما نقله عنه الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره في فرائد الاُصول 3: 20 ـ : وليس عموم قولهم:«لا تنقض اليقين بالشكّ» بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس إلى آحادالأخبار المعتبرة.