(صفحه104)
مقامه كما لا يخفى.
وقد وقع الخلاف بينهم في قيامهما مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحوالكاشفيّة.
ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله في المسألة
فذهب شيخنا الأعظم رحمهالله إلى قيامهما مقامه، حيث قال:
ثمّ من خواصّ القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأماراتالشرعيّة والاُصول العمليّة مقامه في العمل، بخلاف المأخوذ في الحكمعلى وجه الموضوعيّة، فإنّه تابع لدليل الحكم، فإن ظهر منه أو من دليلخارج اعتباره على وجه الطريقيّة للموضوع قامت الأمارات والاُصولمقامه(1)، وإن ظهر منه اعتبار صفة القطع في الموضوع من حيث كونها صفةخاصّة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره، كما إذا فرضنا أنّ الشارع اعتبرصفة القطع على هذا الوجه في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والاُوليين،فإنّ غيره ـ كالظنّ بأحد الطرفين أو أصالة عدم الزائد ـ لا يقوم مقامه إلبدليل خاصّ خارجي غير أدلّة حجّيّة مطلق الظنّ في الصلاة وأصالة عدمالأكثر(2).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
كلام صاحب الكفاية في المقام
- (1) إذ لا فرق بين القطع بحسب بعد طريقيّته إلى الواقع وبين مثل البيّنة، فإنّ طريقيّة البيّنة وإن كانت ناقصة،إلاّ أنّه ينجبر بدليل حجّيّتها الذي يأمرنا بإلغاء احتمال الخلاف، وينزّلها منزلة القطع في بعد الطريقيّة. منهمدّ ظلّه توضيحاً لكلام الشيخ الأعظم رحمهالله .
ج4
واعترض عليه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
وتوهّم كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلةالقطع من جهة كونه موضوعاً(1) ومن جهة كونه طريقاً، فيقوم مقامه طريقكان أو موضوعاً، فاسد جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال لا يكاديكفي إلاّ بأحد التنزيلين، حيث لابدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزّلوالمنزّل عليه، ولحاظهما في أحدهما آلي وفي الآخر استقلالي، بداهة أنّ النظرفي حجّيّته وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّىالطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكنالجمع بينهما.
نعم، لوكان فيالبين مابمفهومه جامعبينهمايمكن أنيكون دليلاً على التنزيلين،والمفروض أنّه ليس، فلا يكون دليلاً على التنزيل إلاّ بذاك اللحاظ الآلي،فيكون حجّة موجبة لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتيإصابتهوخطأه بناءً علىاستحقاقالمتجرّي، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي،فيكون مثله في دخله في الموضوع وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.
لا يقال: على هذا لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينةفي البين.
فإنّه يقال: لا إشكال في كونه دليلاً على حجّيّته، فإنّ ظهوره في أنّه بحسباللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله بحسباللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه، فتأمّل في المقام، فإنّه دقيقومزالّ الأقدام للأعلام(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
- (1) في ذيل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله قرينة على أنّه أراد من القطع الموضوعي ما اُخذ جزء الموضوع، لتمامه، كما سيأتى نقله. منه مدّ ظلّه.
(صفحه106)
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
ويمكن الجواب عنه أوّلاً: بأنّه ـ على فرض تسليمه ـ وارد على القطعالمأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفيّة، حتّى مع قطع النظر عن قيام الأماراتوالاُصول مقامه، ضرورة أنّ القطع بما أنّه موضوع قد لوحظ استقلالاً، وبما أنّهاُخذ في الموضوع بعنوان أنّه طريق قد لوحظ آلةً ومرآةً، مع أنّ ظاهر كلامه رحمهالله إمكان أخذ القطع في الموضوع بجميع أقسامه، ومنها ما إذا اُخذ فيه بنحوالطريقيّة، بل صرّح بذلك بقوله: «كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقهوحاكٍ عنه»(1).
فما كان جوابه عن الجمع بين اللحاظين في القطع الموضوعي الطريقي، كانجوابنا عنه في قيام الأمارات والاُصول بدليل حجّيّتهما مقامه ومقام القطعالطريقي المحض كليهما.
وثانياً: بأنّ اللحاظين يتقوّمان بشخصين، كما في حكم العقل بحجّيّة القطع.
توضيح ذلك: أنّ العقل يحكم بأنّ «القطع حجّة» فالقطع الطريقي جعلموضوعاً في هذا الحكم العقلي، فلا محالة لوحظ بلحاظ استقلالي لأجلموضوعيّته، وبلحاظ آخر آلي لأجل طريقيّته، لكن لا منافاة بينهما، لما عرفتمن أنّ المراد بالقطع هو قطع المكلّف(2)، فالطريقيّة ترتبط بالمكلّف القاطع،والموضوعيّة بالعقل الحاكم، فإنّ العقل يحكم بأنّ القطع الذي هو كاشف عنالواقع عند القاطع حجّة، أي منجّز عند الإصابة ومعذّر عند الخطأ،فاللحاظان لا يرتبطان بشخص واحد.
ج4
وبه ينحلّ الإشكال في المقام، فإنّ القاطع أو الظانّ بشيء يكون نظرهإلىالمقطوع به أو المظنون نظراً استقلاليّاً، وإلى قطعه وظنّه آليّاً، ولا يمكن لهالجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي، لكنّ الناظر إلى هذا القطع والظنّ الآليّينإذا كان شخصاً آخر يكون نظره استقلاليّاً، وما نحن فيه كذلك، فإنّ الحاكمبحجّيّة الأمارات(1) ينظر إليها بنظر استقلالي ويقيمها مقام القطع الذي يلاحظهأيضاً بنحو الاستقلال، فما أفاده صاحب الكفاية رحمهالله من أنّ النظر إلى الأمارة فيمقام جعل الحجّيّة لها وتنزيلها منزلة القطع آلي طريقي إنّما هو من باب اشتباهاللاحظين، فإنّ آليّة اللحاظ ترتبط بمن قامت عنده الأمارة لا بالحاكم الذيينزّلها منزلة القطع.
والمحقّق الخراساني رحمهالله سلك طريقاً آخر لدفع غائلة لزوم الجمع بيناللحاظين في حاشية الرسائل، لكنّه ضعّفه في الكفاية.
أمّا الطريق فتوضيحه: أنّه لو ادّعي دلالة دليل حجّيّة الأمارةوالاستصحاب بالمطابقة على كلا التنزيلين ـ أعني تنزيلهما منزلة القطع فيطريقيّته، وتنزيلهما منزلته في دخله في الموضوع ـ لاستلزم المحال، لأجلاجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي.
بخلاف ما إذا دلّ دليل الحجّيّة بالمطابقة على التنزيل الأوّل ـ أي على تنزيلالمؤدّى والمستصحب منزلة الواقع، بأن يكون الأمارة والاستصحابملحوظين باللحاظ الآلي ـ وبالالتزام على التنزيل الثاني، فحينئذٍ ندّعي أنّتنزيل مشكوك الخمريّة مثلاً منزلة الخمر الواقعي المدلول عليه بالمطابقةملازم عرفاً مع تنزيل القطع بالخمر التعبّدي منزلة القطع بالخمر الواقعي،فيكشف بالدلالة الالتزاميّة المستندة إلى الملازمة العرفيّة وجود هذ
- (1) ذكر الأمارات من باب التمثيل، وإلاّ فالبحث يعمّ الاُصول العمليّة أيضاً. م ح ـ ى.
(صفحه108)
التنزيل(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في الحاشية.
وذهب المحقّق الاصفهاني رحمهالله إلى أنّه يمكن دفع الإشكال بدلالة الاقتضاءالذي هو من أحكام العقل، فضلاً عن الملازمة العرفيّة، لأنّ التنزيل الأوّلـ أعني تنزيل مؤدّى الأمارة والمستصحب منزلة الواقع ـ لغو لو لم يكن هذالتنزيل الثاني، فلابدّ منه صوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة(2).
وأمّا التضعيف فهو قوله رحمهالله في الكفاية:
وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقعوالقطع ـ وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلةالواقع وإنّما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهموتنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً منزلة القطع بالواقع حقيقةً ـ لا يخلو منتكلّف بل تعسّف، فإنّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع(3) أو قيده بما هوكذلك بلحاظ أثره إلاّ فيما كان جزئه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان أو تنزيلهفي عرضه، فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيلجزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر فيما لم يكن محرزحقيقةً، وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة كما فيما نحن فيه على ما عرفتلم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه أصلاً، فإنّ دلالته على تنزيل المؤدّى تتوقّفعلى دلالته على تنزيل القطع بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلاّ بعد دلالته علىتنزيل المؤدّى، فإنّ الملازمة إنّما(4) تدّعى بين تنزيل القطع به منزلة القطع
- (1) حاشية كتاب فرائد الاُصول: 8 ـ 9.
- (3) هذه الفقرة من كلام صاحب الكفاية تدلّ على أنّ كلامه في تنزيل الأمارة والاستصحاب منزلة القطعالمأخوذ جزء الموضوع، لا تمامه. منه مدّ ظلّه.
- (4) اختلفت نسخ الكفاية من هنا إلى آخر العبارة، واخترنا ما في «حقائق الاُصول» لسيّدنا الحكيم رحمهالله ، لكونهأجود من غيره. م ح ـ ى.