ج4
بعض الطيور المعتادة بتلفّظ بعض الكلمات الموضوعة.
ولابدّ لإثبات الظهور وتعيين الدلالة التصوريّة من استخدام علائم الحقيقةوالمجاز، من التبادر وعدم صحّة السلب ونحوهما.
وأمّا قول اللغويّين فلا يعتمد عليه، لأنّهم يبيّنون نوعاً موارد استعمالالألفاظ من دون تعيين كون الاستعمال بنحو الحقيقة أو المجاز.
الثالث: إحراز استعمال الألفاظ في المعاني، وهو الذي يعبّر عنه بالدلالةالتصديقيّة الاستعماليّة.
وهذا يتوقّف ـ مضافاً إلى الوضع والعلم بالموضوع له ـ على أمرين آخرين:
أ ـ أن يكون اللفظ مسموعاً من لافظ ذي شعور قاصد لتفهيم المرادالاستعمالي، لا من مثل النائم أو الطائر.
نعم، لا منافاة بين الهزل وبين هذه المرحلة من الدلالة التصديقيّة، فإنّالهزل ينافي الإرادة الجدّيّة لا الاستعماليّة، فإنّ من مازح صديقه بقوله: «أنتضيفي غداً بأكل الحلويّات والأطعمة اللذيذة» استعمل الألفاظ في معانيهوأراد تفهيم تلك المعاني لصديقه، لكنّه هازل مازح به، فالإرادة الاستعماليّةمتحقّقة هاهنا دون الإرادة الجدّيّة.
ب ـ عدم قرينة متّصلة على خلاف الموضوع له، فإنّ اللفظ إذا كان مقرونبما يصرفه إلى المعنى المجازي لم تنعقد له دلالة تصديقيّة استعماليّة على المعنىالحقيقي، ولا فرق في ذلك بين ما ذهب إليه المشهور في باب المجاز من كونهعبارةً عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وبين ما اخترناه من كونه عبارةعن استعماله فيما وضع له بادّعاء توسعته بحيث يعمّ المعنى المجازي.
الرابع: إحراز كون المستعمل فيه مراداً للمتكلِّم جدّاً، وهذا أعلى مرتبةالدلالة التصديقيّة.
(صفحه214)
ويتوقّف تحقّق الإرادة الجدّيّة ـ مضافاً إلى الاُمور الأربعة المتوقّفة عليهالإرادة الاستعماليّة ـ على أمرين آخرين:
أ ـ أن يكون المتكلِّم في مقام الجدّ، لا في مقام الهزل واللعب والمزاح.
ب ـ أن لا يكون هاهنا قرينة منفصلة(1) متقدّمة على الكلام أو متأخّرةعنه، وإلاّ فلم تطابق الإرادة الجدّيّة مع الاستعماليّة، فإن كان لنا دليل عامّ أومطلق قد خصّص أو قيّد بدليل منفصل كانت الإرادة الاستعماليّة متعلّقةبالعموم والإطلاق، والإرادة الجدّيّة بغير مورد المخصّص والمقيّد.
الخامس: أن يكون الكلام صادراً لبيان الحكم الواقعي، لا للتقيّة، فإنّالكلام الصادر من الإمام عليهالسلام في مقام التقيّة لأجل التحفّظ على نفسه عليهالسلام أوعلى نفوس الشيعة لا يكون حجّة قابلة لاستنباط الأحكام به، وإن كانتإرادته الجدّيّة مطابقةً للإرادة الاستعماليّة.
والتقيّة أمرٌ رائجٌ بين العقلاء أحياناً، وبين الأئمّة المعصومين عليهمالسلام كثيراً، بحيثعدّت مخالفة العامّة من المرجّحات في باب تعارض الخبرين، فإنّه عليهالسلام قال ـ فيجواب من سأله عن الخبرين المتعارضين الذين كان أحدهما موافقاً للعامّةوالآخر مخالفاً لهم ـ : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد»(2).
الاُصول العقلائيّة الجارية في موارد الشكّ
ثمّ إنّا لو أحرزنا ما استعمل فيه اللفظ وما اُريد منه جدّاً فلا إشكال ولكلام. إنّما الإشكال فيما إذا شككنا في الإرادة الاستعماليّة أو الجدّيّة، فهاهنمسألتان:
- (1) فالقرينة المتّصلة تغيّر المراد الاستعمالي، والمنفصلة تغيّر المراد الجدّي. م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
ج4
الاُولى: أنّا إذا لم نعلم أنّ الكلام استعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي فماذتقتضيه القاعدة؟
مثاله ما إذا قال المتكلّم: «رأيت أسداً» واحتملنا أنّه أراد الاستعمالالمجازي لكنّه نسي أن يوصل بكلامه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي،فشككنا أنّه أراد من كلمة «أسد» الحيوان المفترس، أو الرجل الشجاع.
والحقّ أنّ اللفظ يحمل على المعنى الحقيقي، باستناد أصالة الحقيقة بناءً علىالمشهور من كون المجاز استعمالاً في غير ما وضع له.
وأمّا بناءً على المختار من كونه استعمالاً فيما وضع له ـ بالتقريب الذيقدّمناه في محلّه ـ فلا مجال لأصالة الحقيقة، لكن هاهنا أصل عقلائي آخريعيّن المعنى الحقيقي، وهو أصالة عدم الخطأ فيما إذا احتمل أنّه نسى القرينةولم يذكره خطأ، كما أنّ هذا الأصل محكّم فيما إذا احتمل تبديل لفظ بلفظٍ آخر،مثل أنّه قال: «أكرم زيداً» واحتملنا أنّه أراد إكرام عمرو وأمر بإكرامزيد خطأً.
والحاصل: أنّ اللفظ يحمل على المعنى الحقيقي ـ عند احتمال نسيان القرينة بلا خلاف، لكن باستناد «أصالة الحقيقة» بناءً على مذهب المشهور في بابالمجاز، وباستناد «أصالة عدم الخطأ» بناءً على المختار فيه.
وليس لنا أصل آخر باسم «أصالة عدم القرينة» لتشخيص المرادالاستعمالي كما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم رحمهالله (1).
- (1) قال الشيخ رحمهالله في بيان الأمارات التي خرجت من تحت الأصل واُقيم الدليل على اعتبارها:
منها: الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة، وهي على قسمين:
القسم الأوّل: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلِّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك، كأصالة الحقيقةعند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والإطلاق، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينةالصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة. فرائدالاُصول 1: 135.
(صفحه216)
الثانية: أنّ المستعمل فيه إذا كان معلوماً لنا، لكن يحتمل أن يكون المتكلِّمفي مقام الهزل والمزاح(1) فللعقلاء أصل يسمّى «أصالة التطابق بين الإرادةالجدّيّة والاستعماليّة».
هذه هي الاُصول العقلائيّة لتشخيص المراد الاستعمالي والجدّي.
أصالة الظهور
إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله كثيراً ما تمسّك بـ «أصالة الظهور».
فإن أراد إثبات المراد الاستعمالي بها، أي «الأصل ظهور هذا الكلام في هذالمعنى» فقد عرفت أنّ الأصل المستخدم لتشخيص الإرادة الاستعماليّة هو«أصالة الحقيقة» بناءً على مذهب المشهور في المجاز، و«أصالة عدم الخطأ»بناءً على المختار فيه.
وإن أراد إثبات المراد الجدّي بها، أي «الأصل أنّ هذا المراد الاستعمالي هومراد جدّاً» فهو عبارة اُخرى عن «أصالة التطابق بين الإرادتين».
مورد الحاجة إلى الاُصول العقلائيّة المتقدّمة
ثمّ إنّ الروايات الصادرة من قبل المعصومين عليهمالسلام الواصلة إلى المسلمين علىقسمين: لأنّ الموصول إليه تارةً يكون معاصراً للمصدر الأصلي ـ وهوالنبيّ صلىاللهعليهوآله أو الإمام عليهالسلام ـ ويأخذ الروايات منه بلا واسطة، كزرارة ومحمّد بنمسلم وابن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمان وأمثالهم، واُخرى لا يدرك
- (1) أو يحتمل أنّه أقام قرينة منفصلة على خلاف الظاهر لكنّها لم تصل إلينا وإن بذلنا جهدنا للحصولعليها في مظانّها، كما إذا كان بأيدينا عامّ أو مطلق ولم نجد له مخصّصاً أو مقيّداً بعد الفحص التامّ عنهما.م ح ـ ى.
ج4
المعصوم عليهالسلام بل يأخذ الروايات من الوسائط كما في زماننا هذا.
فإن كان الكلام من القسم الأوّل فلا مجال لجريان أصالة الحقيقة أو أصالةعدم الخطأ، لعدم احتمال نسيان المعصوم عليهالسلام القرينة المتّصلة، لعصمته عليهالسلام منالذنب والخطأ كليهما.
وأمّا إن كان من القسم الثاني فاحتمال الخطأ في الواسطة أمرٌ معقول؛ لأنّنحتمل أنّ قوله عليهالسلام : «أعتق رقبة» مثلاً ـ الذي وصل إلينا فرضاً بواسطة محمّدبن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكّوني عن أبيعبداللّه عليهالسلام ـ كان مقروناً بقيد وقد نسيه أحد هؤلاء الوسائط الخمسة، فنحتاجلرفع هذا الاحتمال إلى أصالة عدم الخطأ والنسيان(1).
نعم، لا فرق بين القسمين في احتمال تخلّف الإرادة الجدّيّة عن الاستعماليّةـ حتّى في الكلام الصادر عن المعصوم عليهالسلام ـ لأجل احتمال التقيّة(2) ونحوها،فلابدّ لرفعه من التمسّك بـ «أصالة التطابق بين الإرادتين» فلا فرق بين الكلامالصادر عن العقلاء والصادر عن المعصوم فيما هو العمدة في مبحث حجّيّةالظواهر، وهي طريقة استكشاف المراد الجدّي.
ثمّ إنّه قد وقع الكلام في اُمور ثلاثة:
الأوّل: في أنّ حجّيّة الظواهر هل هي مشروطة بالظنّ بالوفاق أو بعدمالظنّ بالخلاف، أم غير مشروطة بشيءٍ منهما؟
الثاني: في أنّها هل تختصّ بمن قصد إفهامه أو تعمّ غيره أيضاً؟
الثالث: في أنّها هل تختصّ بغير ظواهر الكتاب أو تعّمها أيضاً؟
البحث حول الأمر الأوّل
- (1) كما نحتاج لرفع احتمال الزيادة والنقيصة عمداً إلى إحراز وثاقة الراوي أو عدالته. م ح ـ ى.
- (2) تقدّم منه مدّ ظلّه آنفاً أنّ التقيّة لا تنافي الإرادة الجدّيّة. م ح ـ ى.