قول المنذرين.
والتحقيق أنّ أداة الترجّي ـ مثل كلمة «لعلّ» ـ وضعت للأخير، أي لإنشاءالترجّي، وتستعمل أيضاً فيه حتّى في كلام اللّه تعالى.
لكنّ الداعي إلى إنشاء الترجّي بالنسبة إلينا هو الترجّي الحقيقي، وحيث إنّهيلازم الجهل المستحيل في حقّه سبحانه كان الداعي إليه في كلامه تعالىهوإظهار المحبوبيّة والمطلوبيّة.
فقوله تعالى: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» يدلّ علىمحبوبيّة التحذّر ورجحانه عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيّة التحذّر ثبت وجوبهبالملازمة الشرعيّة والعقليّة.
أمّا الملازمة الشرعيّة فهي أنّ أمر الخبر الواحد دائرٌ بين وجوب العمل بهوبين عدم جوازه، فإنّ كلّ من قال بحجّيّته ذهب إلى وجوب الأخذ به، وكلّمن قال بعدم حجّيّته ذهب إلى عدم جواز العمل به، وأمّا القول بصرفرجحان العمل بخبر الواحد واستحبابه فمردود بعدم القول بالفصل.
وأمّا الملازمة العقليّة فهي أنّ العقل يحكم بوجوب التحذّر مع وجود ميقتضيه وبعدم محبوبيّته، بل عدم صدقه بدونه، إذ لابدّ من أن يكون التحذّرمستنداً إلى شيء يخاف منه، فلا معنى للتحذّر بدون ما يتحذّر منه، فالتحذّرإذا كان محبوباً بمقتضى الآية الشريفة كان كاشفاً عن وجود ما يقتضيه، فكانواجباً عقلاً.
ثانيهما: أنّ الإنذار واجب، لكونه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة «لولا»التحضيضيّة، فلابدّ من القول بوجوب التحذّر أيضاً، وإلاّ كان وجوب الإنذارلغواً.
وبعبارة اُخرى: إنّ التحذّر جعل غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجبواجبة.
وأمّا الأمر الثاني ـ وهو أن يكون الحذر عقيب الإنذار واجباً على الإطلاق،سواء كان قول المنذر مفيداً للعلم أو لم يكن ـ فربما يقال: يمكن إثباته بعدمتقيّد وجوب التحذّر في الآية بما إذا حصل العلم من الإنذار.
إذا ثبت هذان الأمران ثبت حجّيّة قول المنذر وإن لم يكن مفيداً للعلم،وهو المطلوب.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ المراد ـ «التحذّر» في الآية، كما سيجيء، هو التحذّرالقلبي، لا ترتيب الأثر على قول المنذرين عملاً، فلا يصحّ أن يتعلّق بهالأحكام التكليفيّة ـ : أنّه يمكن الخدشة في كلا الأمرين الذين يتوقّفالاستدلال عليهما، أعني وجوب التحذّر وإطلاق وجوبه.
أمّا الأمر الأوّل: فلعدم تماميّة واحد من الوجهين المذكورين لإثباته.
أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ إنشاء الترجّي في القرآن الكريم وإن كان بداعيالمحبوبيّة والمطلوبيّة، إلاّ أنّه لا ملازمة شرعاً ولا عقلاً بين محبوبيّة التحذّرووجوبه.
أمّا نفي الملازمة الشرعيّة فلعدم ثبوت الإجماع على عدم الفصل هاهنا،غايته عدم القول بالفصل، وهو ليس بحجّة.
توضيح ذلك: أنّ العلماء إذا اختلفوا في مسألة على قولين، واتّفقوا على عدمصحّة قول ثالث كان قولهم حجّة في نفي الثالث، وأمّا إذا اختلفوا على قولين
(صفحه310)
من دون أن يتّفقوا على عدم إمكان الثالث فلا، فإذا ذهب جماعة منهم إلىوجوب صلاة الجمعة وجماعة اُخرى إلى حرمتها، فإن أجمع الكلّ على أنّصلاة الجمعة لا تخلو من هذين الحكمين كان دليلاً على نفي الاستحباب؛ لأنّالقول به خرق للإجماع المركّب، وأمّا إذا لم يتّفقوا عليه فلا.
وبعبارة اُخرى: الإجماع المركّب المعتبر عبارة عن الإجماع على عدمالفصل، لا عدم القول بالفصل.
ومسألة حجّيّة الخبر الواحد من قبيل الثاني؛ لأنّ المشهور ذهب إلىوجوب الأخذ به، والسيّد المرتضى ومن تبعه إلى عدم جوازه، وليس هاهنقول باستحباب العمل به، لكنّهم لم يقولوا بعدم إمكان هذا القول، فلو دلّ عليهدليل لم يكن خرقاً للإجماع المركّب.
وأمّا نفي الملازمة العقليّة، فلأنّ عدم وجود ما يقتضي التحذّر وإن كانيلازم عدم حسنه، بل عدم إمكانه، إلاّ أنّ وجود ما يقتضيه لا يلازم وجوبه،بل يلائم استحبابه أيضاً، وذلك لأنّ المراد من المقتضي في المقام لو كان احتمالالعقاب لحكم العقل بوجوب التحذّر؛ لأنّه من موارد القاعدة العقليّة القاضيةبوجوب دفع الضرر المحتمل، وأمّا إذا كان بمعنى احتمال الحرمة كان التحذّرراجحاً من دون أن يكون واجباً.
ألا ترى أنّه يحسن الاجتناب في الشبهات البدويّة من دون أن يكونواجباً، أمّا حسنه فلوجود ما يقتضيه، وهو احتمال الحرمة، وأمّا عدم وجوبهفلجريان أصالة البراءة فيها، فيستحبّ الاجتناب عن شرب التتن المحتملالحرمة في الشبهات الحكميّة، وعن المايع المحتمل الخمريّة في الشبهاتالموضوعيّة.
والحاصل: أنّه لا ملازمة بين رجحان التحذّر ووجوبه؛ لأنّ مقتضى