قلت: السرّ في ذلك أنّ التقليد ليس اسماً لصرف العمل، بل للعمل المستندإلى الفتوى.
والأمر كذلك في المصلحة السلوكيّة، فإنّ الشيخ رحمهالله يدّعي أنّها تقوم بكونالعمل ناشئاً عن قيام الأمارة، لا بنفس العمل مطلقاً وبأيّ داعٍ تحقّق.
فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، وقلنا: إنّ في سلوك الأمارةمصلحة يتدارك بها مفسدة فوت الظهر مثلاً، فعمل المكلّف على طبق الأمارة،ثمّ انكشف الخلاف في الوقت ـ ولو وقت الفضيلة ـ يكون الإتيان بها مجزيعن الظهر، لأنّ المصلحة القائمة في تطرّق الطريق غير مقيّدة بعدم انكشافالخلاف.
وكيف كان، فأساس الجواب عن الشيخ رحمهالله ما تقدّم من أنّ الأماراتالشرعيّة ليست تأسيسيّة، بل هي اُمور عقلائيّة ممضاة من قبل الشارع، وليسفي بناء العقلاء من المصلحة السلوكيّة عين ولا أثر.
وأمّا المحذور الثالث ـ أعني ما يرتبط بمبادئ الحكم الصادر من قبلالمولى ـ فهو أنّه يلزم من جعل الحجّيّة لخبر الواحد اجتماع الضدّين من الإرادةوالكراهة أو الحبّ والبغض فيما إذا دلّ خبر الواحد على وجوب ما هو حرامواقعاً أو بالعكس.
والجواب عنه يتوقّف على تحقيق حول مراتب الحكم وبيان المراد منها.
مراتب الأحكام الشرعيّة
صرّح المحقّق الخراساني رحمهالله في حاشيته على فرائد الاُصول بأنّ للحكممراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز.
لكن أكثر من تأخّر عنه قال بأنّ له مرتبتين: الإنشاء، والفعليّة.
وفسّر المحقّق الخراساني رحمهالله الاقتضاء بمرتبة من الحكم يكون فيها مناطهومقتضيه.
والإنشاء بمرتبة جعل صورة الحكم من قبل المولى من دون أن يشتملعلى بعث أو زجر.
والفعليّة بما إذا بلغ ذلك الحكم الصوري إلى مرتبة البعث والزجر.
والتنجّز بما إذا وصل الحكم الفعلي من طريق العلم أو العلمي إلى المكلّف،فاستحقّ العقوبة على مخالفته، بخلاف الحكم الاقتضائي والإنشائي، إذ الحكمما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على مخالفته.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
وفيه أوّلاً: أنّه لا يصحّ القول بكون الاقتضاء والتنجّز من مراتب الحكم،فإنّ الحكم ـ سواء كان من الأحكام الشرعيّة أو العقلائيّة ـ أمرٌ اعتباريمجعول، والاقتضاء أمرٌ حقيقي تكويني متقدّم عليه ومقتضٍ له، فلا يمكن أن
(صفحه174)
يكون من مراتبه.
كما أنّ التنجّز ـ الذي فسّره باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم ـ منالأحكام العقليّة المترتّبة على الحكم المتأخّرة عنه، فإنّ العقل هو الذي يحكمبأنّ المكلّف يستحقّ العقوبة لو خالف الحكم الفعلي الواصل إليه بالعلم أوالعلمي، فالتنجّز ليس حكماً شرعيّاً، بل حكم عقلي متأخّر عنه.
وثانياً: أنّ الحكم الإنشائي لو كان صوريّاً غير مشتمل على البعث والزجرـ كما فسّره به ـ فلو قلنا بعدم تحقّق الوجوب والحرمة الإنشائيّين في هذهالمرتبة فلم يصحّ عدّها من مراتب الحكم، ولو قلنا بتحقّقهما فلم يصحّ خلوّالإنشاء عن البعث والزجر، لأنّ الإيجاب والتحريم عبارتان عن البعثوالزجر الاعتباريّين، كما حقّقناه في مبحثي مفاد صيغة «افعل» و«لا تفعل» منمباحث الأوامر والنواهي.
وبالجملة: لا يمكن تصوّر حكم وجوبي أو تحريمي خالٍ عن البعث والزجرالمقوّمين للوجوب والحرمة لكي يصحّ القول بالفرق بين الحكم الفعليوالإنشائي ببلوغ الأوّل مرتبة البعث والزجر دون الثاني.
كلام الإمام رحمهالله حول الحكم الإنشائي والفعلي
والحقّ ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله في تفسير الحكمالإنشائي والفعلي.
وهو أنّ الشارع حيث سلك طريقة العقلاء في مقام التقنين جعل ابتداءًأحكاماً كلّيّة متعلّقة بموضوعات عامّة، ثمّ بيّن مخصّصاتها ومقيّداتها بأدلّةمنفصلة(1)، والأحكام الإنشائيّة هي تلك القوانين الكلّيّة التي تعلّقت به
- (1) وانفصال القيود في القوانين العقلائيّة يكون أحياناً لأجل جهلهم حين التقنين بجميع المصالحوالمفاسد، وفي القوانين الشرعيّة لأجل مصالح اُخر كما تقدّم في مبحث العامّ والخاصّ. منه مدّ ظلّه.
ج4
الإرادة الاستعماليّة، والأحكام الفعليّة هي ما بقي تحتها بعد ورود المخصّصاتوالمقيّدات.
فحلّيّة البيع المستفادة من قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»(1) حكم إنشائيعامّ يرجع إليه في موارد الشكّ في التخصيص، وما بقي تحته بعد إخراج البيعالربوي والغرري وغيرهما من موارد الاستثناء يكون حكماً فعليّاً مرادبالإرادة الجدّيّة(2).
هذا حاصل ما أفاده الإمام رحمهالله ، وهو كلام متين.
كلام المحقّق الخوئي رحمهالله في تفسير الحكم الإنشائي والفعلي
وذهب بعض الأعلام رحمهالله ـ على ما في تقريرات بحثه ـ إلى أنّ الحكمالإنشائي ما جعل بنحو القضيّة الحقيقيّة التي تشمل الأفراد المحقّقة الوجودوالمقدّرة الوجود، فما دام الموضوع لم يوجد بتمام قيوده كان الحكم إنشائيّاً، وإذوجد يصير فعليّاً، فوجوب الحجّ المستفاد من قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِحِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(3) يكون إنشائيّاً قبل تحقّق الاستطاعةوفعليّاً بعده(4).
هذا حاصل ما أفاده بعض الأعلام رحمهالله ، والظاهر أنّه أخذه من بعض مشايخهالعظام.
نقد كلام المحقّق الخوئي رحمهالله
- (2) تهذيب الاُصول 2: 377.
- (4) راجع محاضرات في اُصول الفقه 2: 267، و4: 6.