لا إشكال في وجوب موافقة تكاليف المولى عملاً، إنّما الإشكال في وجوبهالتزاماً، بأن يجب على المكلّف الاعتقاد بوجوب الواجبات وحرمة المحرّمات.
ذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره إلى الاستحالة، بدعوى أنّ الأفعالالنفسانيّة ليست اختياريّة، بل وجودها يدور مدار مباديها، فإن تحقّقتالمبادئ تحقّقت قهراً وإلاّ فلا يمكن تحقّقها أصلاً، مثلاً العلم بوجود الباريوعظمته وقهّاريّته يوجب الخضوع والخشوع لدى حضرته جلّت كبريائه،والخوف من مقامه، والعلم برحمته الواسعة وجوده الشامل وقدرته النافذة
يوجب الرجاء والوثوق والتطلّب والتذلّل، وكلّما كملت المبادئ كملت النتائجبلا ريب.
فظهر أنّ الأفعال النفسانيّة نتائج قهريّة لوجود مباديها المقرّرة في محلّهوعند أهله، ولا تتبع إرادة ولا اختياراً.
وعليه فالتسليم القلبي والانقياد الجناني والاعتقاد الجزمي لأمر من الاُمورلا تحصل بالإرادة والاختيار من دون حصول مقدّماتها ومباديها، ولو فرضنحصول عللها وأسبابها لامتنع تخلّفها والاعتقاد بأضدادها، فتخلّفها عنالمبادئ ممتنع، كما أنّ حصولها بدونها أيضاً ممتنع.
وبذلك يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالجحد في قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِها(1) وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا»(2) الجحد اللساني والإنكار الظاهري، فما يقالمن أنّ الكفر الجحودي يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل فينفسه، فاسد جدّاً.
وثانياً: أنّ ما اشتهر في تعريف التشريع بأنّه «إدخال ما ليس من الدين فيالدين» لابدّ من أن يكون بمعنى أنّ المكلّف لو علم أنّ شيئاً ليس من الدينلكنّه أظهر لفظاً أنّه منه كان تشريعاً، وأمّا الالتزام القلبي على كون حكم منالشارع مع العلم بأنّه لم يكن من الشرع أو لم يعلم كونه منه فهو أمر غيرمعقول لا يتحقّق من القاطع حتّى يتعلّق به النهي.
وثالثاً: ما قيل في توجيه القضايا الكاذبة ـ من أنّ العلم كما يتحقّق في النفسبوجود أسبابه كذلك قد تخلق النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عنالخارج، فالقضايا الكاذبة وإن كانت فاقدة للنسبة واقعاً، إلاّ أنّ المخبر الكاذب
- (1) الضمير راجع إلى «آياتنا». م ح ـ ى.
ج4
يخلق في نفسه على خلاف معتقده علماً حاكياً عن تحقّق النسبة في الخارج،فيصدق على كلامه تعريف القضيّة بأنّها «كلام مشتمل على نسبة يصحّالسكوت عليها» ـ فاسد(1)، لأنّ العلم ليس من الاُمور الجعليّة الاختياريّة، بلهو من الاُمور التكوينيّة التي لا توجد في النفس إلاّ بعللها وبأسبابهالتكوينيّة، وإلاّ لزم جواز العلم والجزم في النفس بأنّ الواحد ليس نصفالإثنين، بل هو نصف الثلاثة، وأنّ النقيضين يجتمعان ويرتفعان؟!
وأمّا الإخبارات الكاذبة فإنّما تكون بصورة الجزم، وليس في واحد منهحقيقة الجزم الجعلي، بل إظهاره، والمناط في صحّة السكوت هو الإخبارالجزمي، أي الإخبار الذي بصورة الجزم، ولا ربط للجزم القلبي في صحّةالسكوت وعدمه، ولهذا لو أظهر المتكلّم ما هو مقطوع به بصورة الترديد لتصير القضيّة ممّا يصحّ السكوت عليها.
وبالجملة: الموافقة الالتزاميّة أمر غير اختياري، لأنّها توجد قهراً إذتحقّقت مباديها ولا يمكن أن توجد بدونها، فلا يصحّ تعلّق التكليف بها، لأنّمتعلّق التكليف لابدّ من أن يكون مقدوراً(2).
هذا حاصل ما أفاده قدسسره .
نقد كلام الإمام رحمهالله
ونحن وإن تلقّيناه بالقبول في الدورة السابقة، إلاّ أنّه يمكن المناقشة فيه أوّلاً:بالنقض بورود تكاليف كثيرة في الشريعة متعلّقة بالإيمان ونحوه من الأفعالالنفسانيّة. قال اللّه سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا(3) بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ
- (1) خبر لقولنا: «ما قيل». م ح ـ ى.
- (2) تهذيب الاُصول 2: 343، وأنوار الهداية 1: 142.
- (3) يريد بهذا الأمر إمّا بيان المتعلّق، أو الإيمان بالدرجات العليا. منه مدّ ظلّه.