وهذا لا يلائم الاستدلال لوجوب الاحتياط بالآيات الآمرة بالتقوى، لأنّهلو جرت في الشبهات البدويّة لعمّت جميعها، من دون فرق بين التحريميّةوالوجوبيّة، ولا بين الحكميّة والموضوعيّة، فلاوجه للقول بوجوب الاحتياطفي خصوص الشبهات الحكميّة التحريميّة.
إن قلت: نعم، ولكن سائر الشبهات خرجت عن تحت الآيات بالتخصيص.
قلت: أوّلاً: لسان هذا النوع من الآيات آبٍ عن التخصيص.
فلابدّ من القول بعدم ارتباط هذا النوع من الآيات بالشبهات البدويّة، بلمجراها هو ما إذا اُحرز التكليف من طريق العلم التفصيلي أو الإجمالي، فليصحّ الاستدلال بها في مسألة البرائة.
والمراد بـ «العلم» في الآية هو الحجّة الشرعيّة.
والحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة هو اتّباع غير العلم وافتراء علىالشارع حيث إنّه لم يؤذن له.
وفيه: أنّ الاُصوليّين لا يقولون في محتمل الحرمة بالإباحة الواقعيّة، بليقولون بالإباحة الظاهريّة، مع الاعتراف بكون الحكم الواقعي مجهولاً، وحيثمعرفت أنّ المراد بـ «العلم» في الآية الشريفة هو الحجّة الشرعيّة فالقول بإباحةمحتمل الحرمة ظاهرا باستناد ما عرفت من أدلّة الاُصوليّين على البرائة ليسقولاً بغير علم.
ولو كان القول بالإباحة الظاهريّة مصداقا للقول بغير العلم، فالقولبالاحتياط أيضا كان كذلك، لأنّ الحكم الواقعي مجهول عند الأخباريّينأيضا، وقولهم بوجوب الاحتياط في مورد الجهل بالحكم الواقعي قول بغيرعلم، وهو منهيّ عنه بقوله تعالى: «لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».
إن قلت: بين الاُصوليّين والأخباريّين فرق من حيث العمل، فإنّالأخباري ـ الذي يجتنب باستناد أصالة الاحتياط عن مثل شرب التتن الذيهو محتمل الحرمة والإباحة ـ لم يسئل عنه بـ «لم تركت شرب التتن؟» لأنّغايته أن يكون بحسب الواقع مباحا، والعمل بالمباح لا يكون واجبا لكي يقعتاركه موردا للسؤال.
بخلاف الاُصولي ـ الذي يرتكبه باستناد أصالة البرائة ـ فإنّه يسئل عنهبأنّك «لم ارتكبت شرب التتن مع أنّه محتمل الحرمة عندك؟».
قلت: نعم، ولكن لافرق بينهما بحسب الفتوى، فإنّ الأخباري يفتي بوجوبالاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة، والاُصولي يفتي بعدم وجوب
ج4
الاحتياط فيها، وعلى كلّ منهما إقامة الدليل على فتواه، وإلاّ كان موردلخطاب «لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» فإن كان الاُصولي موردا لهذا الخطابكان الأخباري أيضا كذلك، وإن كان فتوى الأخباري مستندة إلىحجّةشرعيّة وعقليّة، ولم يصدق عليها القول بغير علم كان فتوى الاُصولي أيضكذلك من دون فرق بينهما.
ومنها: ما نهانا عن الإلقاء في التهلكة، كقوله تعالى: «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْإِلَى التَّهْلُكَةِ»(1).
فإنّ من التفت إلى أنّ للمشتبه ـ مثل شرب التتن ـ حكما واقعيّا واحتملأنّه كان حراما واقعا ومع ذلك ارتكبه فهو ممّن ألقى نفسه بأيديه إلى التهلكة،وقد نهى اللّه تعالى عنه في الآية الشريفة.
وفيه أوّلاً: أنّ ارتكاب محتمل الحرمة باستناد المجوّزات الشرعيّة والعقليّةـ مثل حديث الرفع وحديث السعة وحديث «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيهنهي» وقاعدة «قبح العقاب بلابيان» ـ لم يصدق عليه الإلقاء في التهلكة، لأنّترخيص الشرع والعقل في الارتكاب مؤمّن من الموءاخذة والعقاب.
بل موضوع الآية الشريفة هو أطراف العلم الإجمالي، لتحقّق احتمال العقوبةالناشئ من احتمال الحرمة فيها والعلم بالتكليف إجمالاً وعدم الترخيص منناحية الشارع، لاالشبهات البدويّة التي ورد فيها مؤمّنات ومرخّصات كثيرة.
وثانيا: أنّ النهي في الآية الشريفة نهي إرشادي، ولا يمكن أن يكونمولويّا. وذلك لأنّ تحقّق مادّة هذا النهي ـ وهو الإلقاء في التهلكة ـ يتوقّف علىأمر أو نهي مولوي منجّز معلوم، مثل الأمر بالصلاة والنهي عن شربالخمر(2)، كي تكون مخالفته مستلزمة لاستحقاق العقوبة والإلقاء في التهلكة،
- (2) كما أنّ تحقّق مادّة الأمر في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ» و «اتَّقُوا اللّهَ» أيضا يتوقّف على أمر أو نهيمولوي منجّز معلوم كي يكون موافقته مصداقا لتلك المادّة أعني «إطاعة اللّه» و«التقوى» ولذلك قلنا بكونالأمر في مثل هاتين الآيتين أيضا إرشاديّا كما تقدّم. منه مدّ ظلّه.