الذي يكون آلةً ومرآةً له، ولحاظ القطع قائم بالمولى الحاكم، حيث إنّه لاحظقطع العبد بما هو كاشف له وجعله موضوعاً لحكمه.
ووجه الصحّة في كليهما أنّ القطع هو قطع المكلّف، والحاكم ـ سواء كانالشارع أو العقل ـ يأخذه ويجعله موضوعاً لحكمه.
وأمّا الاحتمال الثاني الجاري في كلام المحقّق النائيني رحمهالله ـ وهو أنّ أخذ القطعتمام الموضوع يقتضي عدم دخل الواقع في ترتّب الحكم، وكون القطع طريقيّ
يقتضي دخله فيه ـ فيرد عليه أنّ كونه تمام الموضوع وإن اقتضى عدم دخلالواقع فيه، لأنّ صرف القطع يوجب ثبوت الحكم، سواء أصاب أو أخطأ، إلأنّ طريقيّته لا تقتضي دخله فيه، فإنّ الدخيل هو الطريقيّة إلىالواقع، لا نفسالواقع، وطريقيّة القطع لا تتوقّف على إصابته، فإنّ القطع الطريقي تارةً: يوافقالواقع، واُخرى: يخالفه، ولذا نقول: «القطع حجّة» أي منجّز عند الإصابةومعذّر عند الخطأ.
كما أنّ الأمر كذلك أيضاً في حجّيّة الأمارات، فإنّ الحكم بحجّيّة خبرالعادل بعنوان أنّه طريق إلى الواقع لا يقتضي كون الواقع دخيلاً في حجّيّته، بلالدخيل إنّما هو طريقيّته التي لا تتوقّف على إصابته.
والحاصل: أنّ كلام المحقّق النائيني رحمهالله لا يتمّ في المقام، سواء فسّر بالمعنىالأوّل أو بالمعنى الثاني.
فالقطع بلحاظ طريقيّته وموضوعيّته ينقسم إلى سبعة أقسام كما تقدّم.
تقسيم آخر للقطع الموضوعي
وللقطع الذي اُخذ موضوعاً للحكم تقسيم آخر بلحاظ متعلّقه، فإنّ متعلّقهقد يكون حكماً من الأحكام، وقد يكون شيئاً آخر.
لا إشكال ولا خلاف في جواز الثاني، كما إذا قال: «إذا قطعت بخمريّة مايعيحرم عليك ذلك المايع».
وأمّا الأوّل فهو يتصوّر على أربعة أقسام:
أ ـ أنيؤخذالقطع بحكم في موضوع حكم آخر لايضادّه ولايماثله، بل بينهمكمال الملائمة، مثل «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة يجب عليك التصدّق».
ولا إشكال ولا خلاف في جواز هذا القسم أيضاً.
(صفحه90)
ب ـ أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم يضادّه، كما إذا قال: «إذقطعت بوجوب صلاة الجمعة تحرم عليك صلاة الجمعة».
ج ـ أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم يماثله، كما إذا قيل: «إذا قطعتبوجوب صلاة الجمعة يجب عليك صلاة الجمعة» واُريد أنّها تجب بوجوبآخر غير ما تعلّق به القطع.
د ـ أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم، كما إذا اُريد فيالمثال السابق أنّ صلاة الجمعة تجب بنفس الوجوب الذي تعلّق به القطع.
وهذه الأقسام الثلاثة وقعت محلاًّ للبحث.
أخذ القطع بحكم في موضوع ضدّه
وذكر القائلون باستحالة أخذ القطع بحكم في موضوع ضدّه وجوهلإثباتها:
كلام صاحب الكفاية في ذلك ونقده
منها: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله ، من أنّه يستلزم اجتماع الضدّين،وهو محال(1).
وفيه ـ مضافاً إلى أنّه لا يقتضي اجتماع الضدّين بحسب الواقع، لجواز كونالقطع خطأً، بل يستلزمه بحسب نظر القاطع، وهو لا يكفي في الاستحالة، فإنّالممتنع هو اجتماع الضدّين واقعاً ـ : أنّ ما ذهب إليه في الكفاية، من القولبتضادّ الأحكام الخمسة التكليفيّة(2) لا يتمّ عندنا، فإنّ مقولة التضادّ وكذ
ج4
سائر المقولات تختصّ بالواقعيّات، ولا ترتبط بالاعتباريّات، ألا ترى أنّهيستحيل كون جسم واحد معروضاً للبياض والسواد في زمن واحد، ولو منقبل شخصين، ولا يمتنع تأثير عقد عند قوم وعدم تأثيره عند آخرين، كبعضمصاديق البيع أو النكاح التي يعتبرها العقلاء صحيحةً مؤثّرة، ويعتبرهالشارع لغواً باطلة، وأيضاً لا يمتنع إيجاب شيء من قبل شخص وتحريمه منقبل شخص آخر، وهذا أوضح شاهد على عدم جريان التضادّ في الاُمورالاعتباريّة التي منها الصحّة والبطلان، والإيجاب والتحريم، لاستحالة الجمعبين الضدّين ولو من قبل شخصين. فما أفاده صاحب الكفاية في وجهالاستحالة لا يسمن ولا يغني من جوع.
كلام المحقّق الخوئي رحمهالله في المقام ونقده
ومنها: ما اختاره بعض الأعلام رحمهالله ، من أنّه لا يمكن الجمع بينهما في مقامالامتثال، إذ الانبعاث نحو عمل والانزجار عنه في آن واحد محال، وبعد عدمإمكان امتثالهما لا يصحّ تعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم من هذه الجهة(1).
وفيه: أنّ امتناع الجمع بينهما في مقام الامتثال لا يوجب امتناعه في مقامتعلّق الحكم، إذ لا ربط بين المقامين، فإنّ الأحكام تتعلّق بالطبائع وإن كانالعبد عاجزاً عن الامتثال أحياناً، كما في باب المتزاحمين، فإنّ المولى إذا قال:«أنقذ الغريق» وصادف العبد غريقين لا يقدر إلاّ على إنقاذ أحدهما، فلا ريبفي أنّ كلاًّ منهما واجب الإنقاذ بحسب حكم المولى، لاشتماله على الملاك، وليمنع منه عدم تمكّن العبد على ذلك، غاية الأمر أنّ للعبد أن يتمسّك بما يقتضيهحكم العقل، من لزوم الإتيان بالأهمّ إن كان، وإلاّ فيتخيّر.
(صفحه92)
ولأجل ذلك قلنا بجواز إيجاب الأهمّ والمهمّ، كما إذا أمر المولى بإزالةالنجاسة عن المسجد وبالصلاة، وإن تلاقيا في زمن واحد ولم يتمكّن المكلّفمن الجمع بينهما في هذا الزمان.
فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بالأهمّ، وهو «الإزالة» في المثال، لفوريّةوجوبها وسعة وقت الصلاة فرضاً.
وبالجملة: لا يسري امتناع الجمع بين تكليفين في مقام الامتثال إلى مقامتعلّق الحكم من قبل المولى.
دليل آخر لإثبات الامتناع ونقده
ومنها: أنّه لا يكون الشيء واجباً إلاّ إذا كان ذا مصلحة ملزمة، ولا يكونحراماً إلاّ إذا كان ذا مفسدة كذلك، فلو كان شيء واحد واجباً وحراماً معلكان مجمعاً للضدّين، لأنّ المصلحة والمفسدة أمران حقيقيّان متضادّان.
وهاهنا وجه آخر قريب منه، وهو أنّ وجوب الشيء كاشف عن كونهمحبوباً للمولى، وحرمته كاشفة عن كونه مبغوضاً له، فلو كان شيء واحدواجباً وحراماً لاستلزم الجمع بين الضدّين، لأنّ المحبوبيّة والمبغوضيّة أيضأمران تكوينيّان متضادّان.
وفيه: أنّه لا يمتنع الجمع بين المصلحة والمفسدة ولا بين المحبوبيّة والمبغوضيّةفي واحد انطبق عليه عنوانان يكون بأحدهما ذا مصلحة ومحبوباً، وبالآخر ذمفسدة ومبغوضاً، فإنّه ليس في الواقع من قبيل الاجتماع بينهما، وهذا هو سرّجواز اجتماع الأمر والنهي، كما عليه جلّ المحقّقين بعد الآخوند صاحبالكفاية رحمهالله .
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ موضوع أحد الحكمين هو نفس الواقع،