(صفحه304)
وأن يكون ترتّب الأثر على الموضوع مفروغاً عنه ليصحّ التعبّد بالأمارة القائمةعلى ذلك الموضوع والحكم بوجوب تصديقها.
فإذا كان الخبر بلا واسطة، كإخبار «زرارة» عن الصادق عليهالسلام بوجوب شيء أو حرمته، فلا إشكال في صحّة التعبّد بقول «زرارة» والحكمبوجوب تصديقه؛ لأنّه يترتّب على ذلك قول الصادق عليهالسلام من وجوب الشيءأو حرمته.
وأمّا إذا كان الخبر مع الواسطة كإخبار «الشيخ» عن «المفيد» عن«الصدوق» عن «الصفّار» عن العسكري عليهالسلام فالتعبّد بخبر «الشيخ» ووجوبتصديقه في إخباره عن «المفيد» ممّا لا يترتّب عليه أثرٌ شرعي سوى نفس هذالحكم وهو وجوب التصديق، ووجوب التصديق وإن كان من الأحكاموالآثار الشرعيّة، إلاّ أنّه لابدّ وأن يكون بلحاظ ما يترتّب على المخبر به بخبرالعادل من الآثار، ولا يعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسه.
وبعبارة اُخرى: إنّ إخبار «الشيخ» عن «المفيد» وإن كان يترتّب عليه أثرٌشرعي وهو وجوب تصديقه، إلاّ أنّ هذا الأثر لم يكن ثابتاً لخبر «الشيخ» معقطع النظر عن دليل اعتبار قوله والحكم بوجوب تصديقه، بل جاء من نفسوجوب التصديق، فيلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادلنفس وجوب التصديق، وهو لا يعقل.
وقد ظهر أنّ هذا الإشكال لا يختصّ بالوسائط، بل يأتي في آخر السلسلة،وهو إخبار «الشيخ» المحرز بالوجدان، بخلاف الإشكال الثالث، فإنّه يختصّبالوسائط ولا يشمل آخر السلسلة.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن هذا الإشكال
ج4
وقد أجاب عنه المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه بناءً على أن يكون المجعول في بابالأمارات منشأ انتزاع الحجّيّة، وأمّا بناءً على المختار من أنّ المجعول في بابالطرق والأمارات نفس الكاشفيّة والوسطيّة في الإثبات فلا إشكال حتّىنحتاج إلى التفصّي عنه، فإنّه لا يلزم شيء ممّا ذكر؛ لأنّ المجعول في جميعالسلسلة هو الطريقيّة إلى ما تؤدّي إليه أيّ شيء كان المؤدّى، فقول «الشيخ»طريق إلى قول «المفيد» وقول «المفيد» طريق إلى قول «الصدوق» وهكذا إلىأن ينتهي إلى قول «زرارة» الحاكي لقول الإمام عليهالسلام ولا يحتاج في جعلالطريقيّة إلى أن يكون في نفس مؤدّى الطريق أثرٌ شرعي، بل يكفي الانتهاءإلى الأثر ولو بألف واسطة ـ كما في المقام ـ فإنّ جعل الطريقيّة لأقوال السلسلةلمكان أنّها تنتهي إلى قول الإمام عليهالسلام ، فتكون جميع الأقوال واقعة في طريقإثبات الحكم الشرعي(1)، إنتهى.
حول كلام المحقّق النائيني رحمهالله
أقول: كلامه رحمهالله ذو احتمالين:
أ ـ أن يكون جعل الطريقيّة والكاشفيّة لخبر «الشيخ» رحمهالله مثلاً لإثبات خبر«المفيد» رحمهالله به.
وفيه: أنّ خبر «المفيد» رحمهالله حيث يكون من الموضوعات الخارجيّة التي ليترتّب عليه أثرٌ شرعي سوى طريقيّته إلى خبر «الصدوق» رحمهالله بقي الإشكالبحاله، ضرورة أنّه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه جعلت الطريقيّة لخبر«الشيخ» رحمهالله نفس جعل الطريقيّة، من دون أن يكون في البين أثر آخر كان
- (1) فوائد الاُصول 3: 180.
(صفحه306)
جعل الطريقيّة بلحاظه.
ب ـ أن يكون جعل الطريقيّة والكاشفيّة لخبر «الشيخ» رحمهالله بلحاظ ما تنتهيإليه سلسلة السند، من قول المعصوم عليهالسلام نظير ما تقدّم منّا في الجواب عنالوجه الثاني.
وهو صحيح لا غبار عليه، إلاّ أنّه لا يختصّ بما اختاره رحمهالله من المبنى في بابالطرق والأمارات، من كون المجعول نفس الكاشفيّة والوسطيّة في الإثبات، بليجري بناءً على كون المجعول فيه وجوب تصديق العادل، فإنّ وجوب تصديقالعادل يترتّب على خبر «الشيخ» رحمهالله بلحاظ ما تنتهي إليه سلسلة السند منقول المعصوم عليهالسلام ، فلا تفاوت بين المبنيين في صحّة هذا الجواب عن الإشكال.
كلام الإمام رحمهالله في المقام
ثمّ إنّ سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله سلك طريقاً آخر لدفع جميع وجوهالإشكال بقوله:
والذي يقتضيه النظر أنّ الإشكالات تندفع بحذافيرها، بمراجعة بناء العرفوالعقلاء، فإنّهم لا يفرّقون في الأخبار بين ذي الواسطة وعدمه، وسيمرّ عليكأنّ الدليل الوحيد هو البناء القطعي من العقلاء على العمل بخبر الثقة، وأمّأنّ(1) عدم كون محكيّ قول الشيخ ذا أثر فمدفوع، بأنّه لا يلزم في صحّة التعبّدأن يكون له أثرٌ عملي، بل الملاك في صحّته عدم لزوم اللغويّة في إعمال التعبّدأو إمضاء بناء العقلاء كما في المقام، فإنّ جعل الحجّيّة لكلّ واحد من الوسائطأو إمضاء بناء العقلاء ليس أمراً لغواً.
ولعلّ السرّ في عدم تفريقهم بين ذي الواسطة وعدمه، وعدّهم الخبر المعنعن
- (1) كلمة «أنّ» زائدة مخلّة. م ح ـ ى.
ج4
المسلسل خبراً واحداً لا أخباراً؛ لأنّ نظرهم إلى الوسائط طريقي لموضوعي، وليس هاهنا إخبارات عديدة ولكن لا يترتّب الأثر العملي إلبواحدٍ منها أعني خبر «الصفّار» بل إخبار واحد وعمل فارد.
ويشهد على ذلك انصراف ما يدلّ على احتياج الموضوعات إلى البيّنة عنالمقام أعني أقوال الوسائط مع كونها موضوعات. نعم، لو كان لبعض الوسائطأثرٌ خاصّ لا يمكن إثباته إلاّ بالبيّنة، كما لا يخفى(1).
إنتهى كلامه قدسسره .
هذا تمام الكلام في آية «النبأ» والشبهات المختصّة بها والمشتركة بينها وبينسائر أدلّة حجّيّة الخبر الواحد.
وحاصل جميع ما تقدّم: أنّ الشبهات المشتركة جميعها مدفوعة، ولكن معذلك لا يتمّ الاستدلال بمفهوم آية «النبأ» على حجّيّة الخبر الواحد، لتماميّةبعض الإشكالات المختصّة بها.
آية «النفر»
ومنها: قوله تعالى في سورة التوبة: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلنَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوإِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(2).
ويتوقّف الاستدلال بهذه الآية على أمرين:
الأوّل: أن يكون الحذر واجباً على القوم عقيب إنذار المتفقّهين.
الثاني: أن يكون للآية إطلاق، بحيث تعمّ صورة عدم حصول العلم من
- (1) تهذيب الاُصول 2: 462.
(صفحه308)
قول المنذرين.
أمّا الأمر الأوّل: فقد ذكروا لإثبات دلالة الآية عليه وجهين:
أحدهما: أنّ للترجّي ـ مضافاً إلى وجوده الحقيقي القائم بنفس المترجّي،ووجوده الذهني الذي هو عبارة عن تصوّر مفهومه ـ وجوداً ثالثاً يعبّر عنهبالترجّي الإيقاعي الإنشائي.
والتحقيق أنّ أداة الترجّي ـ مثل كلمة «لعلّ» ـ وضعت للأخير، أي لإنشاءالترجّي، وتستعمل أيضاً فيه حتّى في كلام اللّه تعالى.
لكنّ الداعي إلى إنشاء الترجّي بالنسبة إلينا هو الترجّي الحقيقي، وحيث إنّهيلازم الجهل المستحيل في حقّه سبحانه كان الداعي إليه في كلامه تعالىهوإظهار المحبوبيّة والمطلوبيّة.
فقوله تعالى: «وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» يدلّ علىمحبوبيّة التحذّر ورجحانه عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيّة التحذّر ثبت وجوبهبالملازمة الشرعيّة والعقليّة.
أمّا الملازمة الشرعيّة فهي أنّ أمر الخبر الواحد دائرٌ بين وجوب العمل بهوبين عدم جوازه، فإنّ كلّ من قال بحجّيّته ذهب إلى وجوب الأخذ به، وكلّمن قال بعدم حجّيّته ذهب إلى عدم جواز العمل به، وأمّا القول بصرفرجحان العمل بخبر الواحد واستحبابه فمردود بعدم القول بالفصل.
وأمّا الملازمة العقليّة فهي أنّ العقل يحكم بوجوب التحذّر مع وجود ميقتضيه وبعدم محبوبيّته، بل عدم صدقه بدونه، إذ لابدّ من أن يكون التحذّرمستنداً إلى شيء يخاف منه، فلا معنى للتحذّر بدون ما يتحذّر منه، فالتحذّرإذا كان محبوباً بمقتضى الآية الشريفة كان كاشفاً عن وجود ما يقتضيه، فكانواجباً عقلاً.