ج4
ويرد عليه أوّلاً: أنّ كون أخبار «من بلغ» دالّة على حجّيّة الخبر في بابالمستحبّات ولو كان ضعيفا ينافي ما اختاره رحمهالله من كون الحجّيّة عبارة عنلزوم إلقاء احتمال الخلاف، فإنّ أخبار «من بلغ» تدلّ على ترتّب الثواب البالغإلى المكلّف، وإن كان الخبر مخالفا للواقع، فليس مفاد هذه الأخبار إلقاء احتمالالكذب والخلاف، بل مع لحاظ هذا الاحتمال تحكم بترتّب الثواب، فكيفيمكن القول بأنّها تدلّ على الحجّيّة التي هي عبارة عن إلقاء احتمال الخلاف؟!
وكذلك ينافي ما اخترناه أيضا، من أنّ الحجّيّة عبارة عن المنجّزيّةوالمعذّريّة، لأنّ المعذّريّة عبارة عن كون العبد معذورا في مخالفة الواقع فيما إذأخطأت الأمارة، من دون أن يترتّب على عمله أجر وثواب، مع أنّ أخبار«من بلغ» تدلّ على ترتّب الثواب على العمل المطابق للخبر المخالف للواقع.
وبالجملة: كون أخبار «من بلغ» دالّة على حجّيّة الخبر الضعيف فيالمستحبّات ينافي مفاد هذه الأخبار، سواء كانت الحجّيّة عبارة عن إلقاءاحتمال الخلاف، كما اختاره رحمهالله ، أو عبارة عن المنجّزيّة والمعذّريّة، كما هوالحقّ المختار.
هذا هو الإشكال الأساسي على المحقّق النائيني رحمهالله .
وثانيا: سلّمنا كون هذه الروايات في مقام جعل الحجّيّة للخبر الضعيف فيباب المستحبّات، لكن لا يمكن القول بتخصيصها لأدلّة حجّيّة الخبر الواحد،لأنّ مورد التخصيص إنّما هوما إذا كان العامّ والخاصّ متنافيين، مثل «أكرمكلّ عالم» و«لاتكرم العالم الفاسق» وأمّا إذا لم يكونا كذلك، كما إذا كانا مثبتين،مثل «أكرم كلّ عالم» و«أكرم زيدا العالم» فلا وجه للقول بالتخصيص، ومنحن فيه من قبيل الثاني، لأنّ أدلّة حجّيّة الخبر الواحد تدلّ على حجّيّة خبرالثقة، وأخبار «من بلغ» تدلّ على حجّيّة الخبر ولو كان ضعيفا في مورد
(صفحه500)
المستحبّات، فكلا الدليلين مثبتان لا تنافي بينهما كي نقول بالتخصيص.
نعم، لو كان الدليل على حجّيّة الخبر الواحد آية «النبأ» لوقع التنافي بينهما،حيث إنّها بلحاظ المنطوق والمفهوم مشتملة على النفي والإثبات، فتدلّبمفهومها على حجّيّة خبر العادل، وبمنطوقها على عدم حجّيّة خبر الفاسقالذي تدلّ أخبار «من بلغ» على حجّيّته في المستحبّات.
لكنّك عرفت عدم تماميّة آية «النبأ» لإثبات حجّيّة الخبر الواحد(1)، وأنّأهمّ الدليل في تلك المسألة هو بناء العقلاء(2).
ولو سلّمنا دلالة الآية على حجّيّة الخبر الواحد لكان المنافي لأخبار «منبلغ» هو منطوق الآية، لا مفهومها الذي هو الدليل على حجّيّة خبر العادل،فلا يصحّ القول بتخصيص دليل الحجّيّة بأخبار «من بلغ».
ثمّ إنّه لا يمكن الالتزام بما أفاده رحمهالله في الجواب الأوّل عن الإشكال، منحكومة أخبار «من بلغ» على أدلّة حجّيّة الخبر الواحد، لأنّ من شرائطالحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى الدليل المحكوم ومفسّرا له، كما في«لاشكّ لكثير الشكّ» بالنسبة إلى أدلّة الشكوك، مع أنّ أخبار «من بلغ»ليست كذلك، ولأجل ذلك لا ينتقل الذهن منها إلى أدلّة حجّيّة الخبر الواحدأصلاً.
وكذلك لا يصحّ جوابه الثاني عنه، وهو أنّه لو قدّم أدلّة حجّيّةالخبر الواحد على أخبار «من بلغ» في مادّة الاجتماع لم يبق لأخبار «من بلغ»مورد.
وذلك لأنّ لهذه الأخبار ـ مضافا إلى مادّة الاجتماع ـ مادّة افتراق أيضا،
ج4
وهي خبر الثقة الدالّ على الاستحباب، فكيف تبقى بلا مورد لو قدّم أدلّةحجّيّة الخبر الواحد في مادّة الاجتماع؟!
إن قلت: نعم، ولكن خبر الثقة مطلقا ـ سواء ورد في باب المستحبّات أو فيغيرها ـ داخل تحت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد، فلانحتاج إلى أخبار «من بلغ»في مادّة افتراقها، فلو أدخلنا مادّة الاجتماع في أدلّة حجّيّة الخبر الواحد لكانأخبار «من بلغ» لغوا.
قلت: بناءً على ما ذهبتم إليه من كون هذه الأخبار في مقام جعل الحجّيّةللروايات الواردة في باب المستحبّات، كانت في عرض أدلّة حجّيّة الخبرالواحد، لا في الرتبة المتأخّرة عنها، غاية الأمر أنّها تختصّ بباب المستحبّات،وسائر الأدلّة تعمّ جميع الأبواب، فلا يلزم اللغويّة لو قلنا باختصاصها بمادّةالافتراق.
كلام الإمام الخميني رحمهالله في مفاد أخبار «من بلغ»
ولسيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله هاهنا كلام أقرب إلى الذهن من كلامالمحقّقين: الخراساني والنائيني رحمهماالله .
وهو أنّ غرض الشارع لمّا تعلّق على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّاتويرى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها على الطرق المألوفة، ربما يوجب تفويتبعضها(1)، فلأجل ذلك توصّل إلى مراده بالحثّ والترغيب إلى إتيان كلّ مسمع عن الغير الذي يحتمل كونه ممّا أمر به رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وأردف حثّهباستحقاق الثواب وترتّب المثوبة على نفس العمل، حتّى يحدث في نفس
- (1) لعدم توفّر الدواعي على أخذ المستحبّات من الأئمّة عليهمالسلام ونقلها إلى أهالي العصور المتأخّرة بقدرالواجبات والمحرّمات. منه مدّ ظلّه.
(صفحه502)
المكلّف شوقا إلى الإتيان، لعلمه بأنّه يثاب بعمله، طابق الواقع أو خالف، فهذالخطاب والترغيب وجعل الثواب على مطلق العمل، خالف أو وافق، ليس إللأجل التحفّظ على المستحبّات الواقعيّة.
وبعبارة اُخرى: إنّما جعل الثواب على مطلق العمل، حثّا على إتيان كلّيّةمؤدّيات الأخبار الدالّة على السنن، لعلم الشارع بأنّ فيها كثيرا من السننالواقعيّة، فلأجل التحفّظ عليها جعل الثواب على مطلق ما بلغ عنه صلىاللهعليهوآله ، نظيرقوله تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»(1) حيث جعل تضاعفالأجر للحثّ على الإتيان بالحسنات، فلأدلّة الباب إطلاق بالنسبة إلى كلّ مبلغ بسند معتبر أو غيره.
وممّا ذكرنا يظهر أنّ استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل غايته،للفرق الواضح بين ترتّب الثواب على عمل له خصوصيّة ورجحان ذاتي فيهكما في المستحبّات، وبين ترتّب الثواب على الشيء تفضّلاً، لأجل إدراكالمكلّف ماهو الواقع المجهول، كما في المقام، كما أنّ جعل الثواب على المقدّماتالعلميّة لأجل إدراك الواقع لا يلازم كونها اُمورا استحبابيّة، وكما أنّ جعلالثواب على المشي في طريق الوفود إلى اللّه أو إلى زيارة الإمام الطاهر،الحسين بن عليّ عليهماالسلام لأجل الحثّ إلى زيارة بيته أو إمامه، لا يلازم كون المشيمستحبّا نفسيّا، وقس عليه كلّ ما يقع في ذهنك من أمثال ذلك(2).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه ملخّصا.
ويبدو أنّه خير ما قيل في المقام.
والحاصل: أنّه لا يستفاد من أخبار «من بلغ» استحباب العمل البالغ عليه
- (2) تهذيب الاُصول 3: 153، وأنوار الهداية 2: 132.
ج4
الثواب، لا مباشرةً ـ كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله ـ ولا بواسطة جعل الحجّيّةللخبر الدالّ على الاستحباب ـ كما قال المحقّق النائيني رحمهالله ـ بل غرض الشارعتعلّق بالتحفّظ على المستحبّات الواقعيّة، ولأجل ذلك توصّل إلى مرادهبترتيب المثوبة على كلّ عمل بلغ عليه الثواب، ولوكان مخالفا للواقع، ليرغبالمسلمون في العمل ويصلوا إلى مصالح المستحبّات الواقعيّة، من دون أن يصيرنفس العمل مستحبّا.
هذا تمام الكلام في أخبار «من بلغ» وبه تمّت مباحث البراءة.