ج4
فقه الشيعة بتلقّيهم إيّاه من الأئمّة عليهمالسلام .
وأمّا المسائل العقليّة المحضة، كالمسائل الكلاميّة(1)، وكذا المسائل التفريعيّةالتي استنبطها الفقهاء من المسائل الأصليّة والقواعد الكلّيّة بإعمال النظروالاجتهاد(2)، فاتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن تلقّيها عن المعصومين عليهمالسلام ،بل يكون من باب التوافق في الفهم والنظر(3)، إنتهى كلامه رحمهالله .
وهو كلام جيّد متين.
والحاصل: أنّ كلّ الفقهاء في جميع الأعصار والأمصار إذا اتّفقوا على مسألةليست من المسائل العقليّة أو التفريعيّة، بل من المسائل النقليّة الأصليّة الكلّيّةكان كاشفاً عن أنّهم تلقّوها عن المعصومين عليهمالسلام .
الإجماع المنقول بالخبر الواحد
إذا عرفت هذا، فاعلم أنّه لا إشكال في حجّيّة الإجماع المنقولبالخبر المتواتر(4)، لإفادة التواتر العلم، فكأنّ المنقول إليه نفسه حصّلالإجماع.
إنّما الإشكال في اعتبار الإجماع المنقول بالخبر الواحد، فإنّهم اختلفوا في أنّ
- (1) وكوجوب مقدّمة الواجب الذي يبتني على الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.منه مدّ ظلّه.
- (2) كموارد استنباط الحكم من الإطلاق والعموم ونحوهما، فإنّ اتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن تلقّيها عنالمعصوم عليهالسلام ، لأنّ بيانها ليس من وظائفه عليهالسلام ، فإنّهم قالوا: «علينا إلقاء الاُصول وعليكم التفريع». وسائلالشيعة 27: 62، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
- (4) بشرط تساوي المنقول إليه والناقل في وجه حجّيّة الإجماع المحصّل، كما إذا اعتقد كلاهما بأنّه حجّةمن باب الحدس والملازمة العاديّة. م ح ـ ى.
(صفحه252)
أدلّة حجّيّة خبر الثقة أو العادل، على فرض تماميّتها، هل تعمّه أيضاً ـ باعتبارأنّه أيضاً نقل رأي المعصوم عليهالسلام في قالب الإجماع ـ أم لا(1)؟
الحقّ في المسألة
الحقّ هو الثاني؛ لأنّ عمدة الأدلّة في باب حجّيّة الخبر هي بناء العقلاءبضميمة عدم ردع الشارع عنه، وحيث إنّ بناء العقلاء دليل لبّي فلابدّ منالاكتفاء بالقدر المتيقّن منه، وللقدر المتيقّن من الخبر المعمول به عند العقلاءخصوصيّتان(2):
أ ـ أن يكون المخبر به أمراً محسوساً وجداناً، كالإخبار بمجيء زيد منالسفر، أو قريباً من الحسّ، كالإخبار بشجاعة عمرو، فإنّ الشجاعة وإنكانت من الاُمور النفسانيّة التي لا تُدرك بالحسّ، إلاّ أنّ أثرها محسوسمشاهد بالوجدان، فتكون نفس الشجاعة أمراً قريباً من الحسّ.
فإذا كان المخبر به كذلك ترتّب عليه الأثر عند العقلاء، وذلك لأنّ احتمالعدم صحّة الخبر إمّا ناشٍ عن احتمال كذب المخبر عمداً، وهو يندفع بسببكون المخبر ثقة فرضاً، أو لاحتمال خطأه، وهو أنّ عمراً جاء من السفر، لكنّهتخيّل أنّه كان زيداً، وهذا أيضاً يندفع بأصالة عدم الخطأ التي هي من الاُصولالعقلائيّة.
وبالجملة: الخبر الواحد حجّة فيما إذا كان المخبر به أمراً حسّيّاً أو قريباً منالحسّ، وأمّا إذا كان من حدسيّات المخبر فلم يحرز بناء العقلاء على العمل به
- (1) وترتيب البحث كان يقتضي تأخّر هذه المسألة عن الكلام حول حجّيّة الخبر الواحد، لتفرّعها عليه، لكنّالاُصوليّين قدّموها. منه مدّ ظلّه.
- (2) لو كان الخبر واجداً لكلتا الخصوصيّتين لعمل العقلاء به، ولو كان فاقداً لإحداهما لشككنا في بنائهمعلى العمل به، ولا مجال للتمسّك بالأدلّة اللبّيّة في الموارد المشكوكة، بخلاف الأدلّة اللفظيّة، حيث يجوزالتمسّك بإطلاقها وعمومها ونحوهما في موارد الشكّ في التخصيص والتقييد. م ح ـ ى.
ج4
وإن كان حدسه حدساً قطعيّاً.
ب ـ أن لا يكون المخبر به أمراً غريباً غير متعارف، كالإخبار برؤيةشخص طول قامته أربعة أمتار، فإنّ العقلاء لا يقبلون مثل هذه الأخبار وإنكان مخبرها ثقة.
إذا عرفت ذلك فنقول:
نقل الإجماع وإن كان إخباراً برأي المعصوم عليهالسلام عندنا، إلاّ أنّه ليس منالأخبار المحسوسة المتعارفة، فإنّ ناقل الإجماع إن حصّل رأي الإمام عليهالسلام بمثلقاعدة اللطف أو الملازمة العاديّة بين الإجماع وبين موافقته عليهالسلام فلم يكن المخبربه ـ أعني رأي الإمام عليهالسلام ـ أمراً محسوساً، ولا قريباً من الحسّ، وإن حصّلهبمثل مسألة التشرّف والدخول فهو وإن كان محسوساً إلاّ أنّه أمرٌ غير متعارففي عصر الغيبة، وبناء العقلاء على العمل بالأخبار غير المحسوسة أو غيرالمتعارفة، مشكوكٌ فيه لو لم نقل بأنّه مقطوع العدم.
وهذا بخلاف ما رواه مثل زرارة وابن أبي عمير ومحمّد بن مسلم عنالإمام عليهالسلام فإنّهم حيث كانوا يعيشون في زمن الأئمّة عليهمالسلام كانوا يأخذون أقوالهموأفعالهم وتقريراتهم بالحسّ وبنحو عادي، فكان ما أخبروا به عنهم عليهمالسلام منالاُمور المحسوسة المتعارفة.
والحاصل: أنّه لا يصحّ القول بحجّيّة الإجماع المنقول بالخبر الواحد بدليلحجّيّته بدعوى كونه من مصاديقه.
قيمة الإجماعات المنقولة
نعم، إذا كان نقل الإجماع بمعنى نقل السبب كان حجّة بدليل حجّيّة الخبر.
توضيح ذلك: أنّ ناقل الإجماع يكون تارةً: في مقام نقل ما هو سبب
(صفحه254)
لانكشاف رأي المعصوم عليهالسلام فيريد بقوله: «هذه المسألة إجماعيّة» بيان آراءالفقهاء، واُخرى: في مقام نقل خصوص المسبّب، فيريد بيان رأي المعصوم عليهالسلام ،وثالثة: في مقام نقل كليهما.
فإن كان في مقام نقل السبب، وكان المنقول إليه موافقاً له في وجه حجّيّةالإجماع، كان حجّة(1)، لكون المخبر به ـ وهو آراء الفقهاء ـ أمراً محسوسمتعارفاً، فكأنّ المنقول إليه نفسه حصّل الإجماع الذي هو كاشف عنده عنموافقة المعصوم عليهالسلام .
نعم، بينهما فرق من جهة أنّه لو حصّل الإجماع بنفسه كان سبباً قطعيّلانكشاف رأي الإمام عليهالسلام ، بخلاف الإجماع المنقول بالخبر الواحد، فإنّه لا يفيدالقطع، بل ربما لا يفيد الظنّ أيضاً، لكن لا تشترط في حجّيّة الخبر الواحدإفادته الظنّ الشخصي.
ولو توافق الناقل والمنقول إليه في أصل السبب(2) لكنّهما اختلفا فيما يتحقّقبه السبب ـ كما إذا اكتفى الناقل في سببيّة السبب بآراء خمسين من الفقهاءوالتزم المنقول إليه بلزوم اتّفاق مائة منهم مثلاً ـ فهل هذا الإجماع المنقول أيضحجّة بالنسبة إلى جزء السبب، بحيث إنّ المنقول إليه لو أتمّه بتحصيل فتاوىخمسين آخرين من الفقهاء، لكان كاشفاً عن رأي الإمام عليهالسلام ، أم لا؟
كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في ذلك
قال المحقّق الاصفهاني رحمهالله :
يمكن أن يناقش فيه بأنّ الخبر لا يكاد يكون حجّة شرعاً إلاّ إذا كان المخبر
- (1) بخلاف ما إذا كان المنقول إليه مخالفاً للناقل في وجه اعتبار الإجماع، كأن يرى الناقل أنّه من باب اللطفوالملازمة العقليّة، والمنقول إليه أنّه من باب الحدس والملازمة العاديّة. م ح ـ ى.
- (2) كأن يعتقد كلاهما بانكشاف رأي الإمام عليهالسلام بالإجماع من طريق قاعدة اللطف. م ح ـ ى.
ج4
به حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا أثر شرعي، والمخبر به في المقام ليس كذلك،لعدم كون الحكم الشرعي من مدلولاته المطابقيّة ولا الالتزاميّة، أمّا الأوّل:فلأنّ المخبر به المطابقي هو آراء جمع من الفقهاء لا رأي المعصوم عليهالسلام ، وأمّالثاني: فلأنّ المفروض أنّ المنقول هو جزء السبب الذي لا يستلزم الكشفعن موافقة المعصوم عليهالسلام إلاّ إذا صار سبباً تامّاً بتحصيل فتاوى عدّة اُخرىمن الفقهاء وضمّها إليه(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام
وفيه: أنّه يكفي في حجّيّة الخبر ترتّب حكم شرعي تعليقي عليه،والمقام من هذا القبيل، لأنّ جزء السبب المنقول بلفظ «الإجماع» إذا انضمّإليه الجزء المكمّل صار سبباً تامّاً لانكشاف رأي المعصوم عليهالسلام ولا يجبفي الأحكام المنكشفة بالدلالات الالتزاميّة أن تكون أحكامتنجيزيّة.
هذا كلّه فيما إذا كان ناقل الإجماع في مقام نقل السبب.
وأمّا إذا كان في مقام نقل المسبّب وحده أو مع السبب فلا يعمّه دليل حجّيّةخبر الثقة(2)، لأنّ الناقل إن استكشف موافقة المعصوم عليهالسلام بمثل الحدسوقاعدة اللطف ونحوهما لم يكن المخبر به محسوساً، وإن حصّله بمثل مسألةالتشرّف والدخول لم يكن متعارفاً، وقد عرفت عدم بناء العقلاء على العملبالأخبار إلاّ إذا كانت محسوسة متعارفة.
- (1) نهاية الدراية 3: 190.
- (2) نعم، يعمّه بالنسبة إلى نقل السبب في الصورة الثانية، أعني ما إذا أراد المخبر نقل السبب والمسبّبكليهما. م ح ـ ى.