وقد أجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عنها بأنّ الظاهر منها أو المتيقّن منإطلاقاتها هو اتّباع غير العلم في الاُصول الاعتقاديّة، لا ما يعمّ الفروعالشرعيّة(1).
لكن يمكن أن يناقش في هذا الجواب بأنّ ورود الآية الثانية عقيب قوله:«إِنَّ الَّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ بِالاْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ اْلأُنْثى وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْعِلْمٍ»وإن كان قرينة على أنّ موردها الاُصول الاعتقاديّة، إلاّ أنّ قوله: «إِنَّالظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» ـ بلحاظ كونه بمنزلة التعليل وبيان كبرى كلّيّة ينادي بأعلى صوته أنّ جنس الحقيقة وطبيعتها لا تسانخ الظنّ، بل بينهما كمالالمفارقة والانفصال، فالآية ظاهرة في العموم الشامل للفروع الفقهيّة وإن كانموردها الاُصول الاعتقاديّة.
سلّمنا، ولكنّ الآية الاُولى تكفي للاستدلال، ولا قرينة لها تخصّهبالاعتقادات، بل ذيلها قرينة على العموم، حيث قال: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَبِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُوءادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْوءُلاً»، فإنّ «الفؤاد»وإن كان مربوطاً بالاُمور القلبيّة، إلاّ أنّ «السمع» و«البصر» يرتبطان بالأعمالالجوارحيّة.
ويؤيّده استشهاد الإمام عليهالسلام بهذه الآية على حرمة إطالة الجلوس في بيتالخلاء لاستماع الغناء(2).
إنّها عمومات مخصّصة بما سيجيء من أدلّة حجّيّة الخبر الواحد، بل وبكلّما دلّ على حجّيّة ظنّ آخر بالخصوص أيضاً.
إن قلت: لسان هذه الآيات آبٍ عن التخصيص.
قلت: إبائها عن التخصيص يستلزم بطلان الاستدلال بها رأساً.
توضيح ذلك: أنّه لا ريب في أنّ هذه الآيات ليست نصّاً في حرمة العملبالظنّ، فإنّ غاية ما يدلّ عليه النهي في قوله: «لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»هوالظهور في حرمة اتّباع غير العلم، وغاية ما يدلّ عليه تعليق الحكم على طبيعةالظنّ في قوله: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» هو الظهور في العموم.
وبالجملة: لا يتمّ الاستدلال بهذه الآيات إلاّ بالتمسّك بظهورين:
أ ـ ظهور النهي في الحرمة.
ب ـ ظهور ما تعلّق به النهي، وهو «ماليس لك به علم» في الآية الاُولى،و«الظنّ» في الآية الثانية، في العموم.
والظاهر لا يفيد إلاّ الظنّ، فالتمسّك بظاهر هذه الآيات لإثبات حرمة العملبالظنّ يقتضي عدم حجّيّة الظنّ الحاصل من ظاهرها أيضاً.
فلا محيص عن تخصيصها بأدلّة حجّيّة الظواهر والخبر الواحد وسائرالظنون الخاصّة.
هذا جواب متين عن الاستدلال بالآيات اختاره بعض الأكابر في المقام(1).
مزيد تحقيق في المسألة
لكن هاهنا جواب أدقّ وأمتن، وهو أنّ تقدّم أدلّة حجّيّة الخبرالواحد على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ على التحقيق يكونبنحو الورود، وإن اختلفوا في وجهه بين التخصيص والتخصّص والحكومة
- (1) فرائد الاُصول 1: 246، وكفاية الاُصول: 339.
ج4
والورود.
توضيح هذه العناوين
فلابدّ من تفسير هذه العناوين الأربعة إجمالاً لتتّضح الحال في المسألة،فنقول:
أمّا التخصيص: فهو إخراج بعض أفراد العامّ عن حكمه معالاعتراف بشمول عنوانه له، كما إذا قال في دليل: «أكرم كلّ عالم»وفي دليل آخر: «لايجب إكرام زيد العالم» فالمخصّص يبيّن أنّ الإرادةالجدّيّة من العامّ تعلّقت بغير مورد المخصّص وإن كانت الإرادة الاستعماليّةشاملةً له أيضاً.
وأمّا التخصّص: فهو خروج شيء بنفسه عن تحت عنوان الدليل، كخروج«زيد الجاهل» عن تحت قول المولى: «أكرم العلماء» سواء ورد دليل آخر دالّعلى عدم وجوب إكرامه أو لم يرد.
فالتخصيص والتخصّص يشتركان في عدم إعمال التعبّد في الموضوع توسعةًوتضييقاً من قبل المولى، بل الموضوع أمر واقعي باقٍ بعد ورود الأدلّة على مكان عليه قبل ورودها.
بخلاف الورود والحكومة، فإنّهما يوجبان التضييق أو التوسعة في دليلبمعونة التعبّد بدليل آخر بحيث لو لم يكن الدليل الثاني لما حصل التضييق أوالتوسعة في الدليل الأوّل.
الفرق بين الورود والحكومة
أمّا الورود: فهو عبارة عن رفع دليل موضوع دليل آخر، كالخبر الواحدالمثبت للحكم بالنسبة إلى «حديث الرفع» فإنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون»