الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، وعلى الثاني فإمّا أن يمكنالاحتياط أم لا، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف أو في المكلّفبه، فالأوّل مجرى الاستصحاب، والثاني مجرى التخيير، والثالث مجرى أصالةالبراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط(1).
نقد كلام الشيخ في أحوال المكلّف
ولذا عدل عنه المحقّق الخراساني رحمهالله إلى التعبير بـ «البالغ الذي وضع عليهالقلم»(2) فإنّ البالغ ـ سواء كان قاطعاً بالتكليف أو ظانّاً به أو شاكّاً فيه ـ وضععليه قلم التقنين وإنشاء التكليف، وإن لم يكن الشاكّ مكلّفاً بالفعل.
مع أنّ ظهور عنوان «المكلّف» في التكليف بالفعل لا يقتضي ذلك، فإنّالمراد من «المكلّف» أيضاً هو «البالغ الذي وضع عليه القلم» لأنّه دخل في
سلك التكليف وصار بالنسبة إلى ما علمه من الأحكام مكلّفاً بالفعل، وإن لميكن كذلك بالنسبة إلى هذا الحكم الملتفت إليه فيما إذا كان شاكّاً فيه.
فلا وجه للعدول من عنوان «المكلّف» إلى «البالغ الذي وضع عليه القلم».
في عموميّة العنوان وخصوصيّته
ثمّ إنّهم اختلفوا في أنّ ما ذكر من الأحكام للقاطع والظانّ والشاكّ هلتختصّ بالمجتهد أو تعمّ المقلّد؟
لا قرينة في كلام الشيخ رحمهالله على تعيين أحدهما.
والحقّ هو الأوّل، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله حيث قال: «إنّ البالغالذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري متعلّق به أوبمقلّديه»(1).
فإنّ ظاهر قوله: «متعلّق به أو بمقلّديه» هو الاختصاص بالمجتهد.
وبه صرّح المحقّق النائيني رحمهالله حيث قال في شرح كلام الشيخ رحمهالله :
والمراد من المكلّف هو خصوص المجتهد، إذ المراد من الالتفات هو الالتفاتالتفصيلي الحاصل للمجتهد بحسب اطّلاعه على مدارك الأحكام، ولا عبرةبظنّ المقلّد وشكّه(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
إن قلت: لا يمكن الالتزام بالفرق بين المجتهد والمقلّد في أحكام القطع، فإنّالقطع كما يكون حجّة بالنسبة إلى المجتهد فكذلك بالنسبة إلى العامّي، فلو قطعمن أيّ طريق بعدم وجوب صلاة الجمعة مثلاً لكان حجّة عليه ولو كان مخالفلفتوى المجتهد الذي يقلّده، لأنّ فتوى الفقيه أمارة شرعيّة على العامّي، فل
(صفحه14)
تعتبر إلاّ في حقّ غير القاطع، كسائر الأمارات.
بل لا يمكن الالتزام به أيضاً في الاُصول العمليّة والأمارات الجاريتين فيالشبهات الموضوعيّة، فإنّ للعامّي أيضاً إجراء استصحاب بقاء نجاسة ثوبهوالعمل بالبيّنة القائمة عنده على خمريّة هذا المائع.
قلت: كون بعض مباحث القطع تعمّ المقلّد لا يوجب أن يكون المراد منالمكلّف أعمّ من المقلّد والمجتهد، إذ البحث عن مباحث القطع وقع استطراداً،وليست من مسائل علم الاُصول كما تقدّم.
وأمّا الاُصول العمليّة والأمارات فلا نسلّم كون العامّي متمكّناً من العملبهما أصلاً، ولا فرق في ذلك بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، كيف وهوعاجز عن تشخيص حجّيّتهما وموارد جريانهما؟! فلا عبرة بشكّه ويقينه ما لميكن مجتهداً في مسألة حجّيّة الاستصحاب كي يعمّه مثل خطاب «لا تنقضاليقين بالشكّ» ولا يجوز له التمسّك بالطرق والأمارات ما لم يكن عارفبشرائط حجّيّتها وكيفيّة التعامل معها عند التعارض.
والحاصل: أنّ المراد بـ «المكلّف» الذي جعل مقسماً في المقام هو خصوصالمجتهد.
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في ذلك
خلافاً للمحقّق العراقي رحمهالله ، فإنّه ذهب إلى عموميّة الأحكام المذكورة لكلّمن المجتهد والمقلّد حتّى في الشبهات الحكميّة، فضلاً عن الموضوعيّة، فإنّه قال:
لا ينبغي الإشكال في عموم ما يذكر لها(1) من الأحكام لكلّ من المجتهد
- (1) أي لأقسام «من وضع عليه قلم التكليف» وهي عبارة عن القاطع بالحكم الشرعي والظانّ به والشاكّ فيه.م ح ـ ى.
ج4
والمقلّد، إذ لا وجه لتخصيصها بالمجتهد بعد إطلاق أدلّتها عدا توهّم كونه منمقتضيات اختصاص عناوين موضوعاتها بخصوص المجتهد، بتقريب أنّحصول تلك الصفات من القطع والظنّ والشكّ إنّما هو فرع الالتفات التفصيليإلى الحكم الشرعي، ومثله مختصّ بالمجتهد، وإلاّ فالعامّي من جهة غفلته ليكاد تحصل له تلك الصفات، وعلى فرض حصولها له لا عبرة بظنّه وشكّهبعد عجزه عن تشخيص موارد الاُصول والأمارات ومجاريها وعدم تمكّنه منفهم مضامينها والفحص التامّ في مواردها، والحال أنّ اختصاص تلكالخطابات بالمتمكّن من تشخيص مجاريها والقادر على الفحص التامّ فيمواردها في الوضوح كالنار على المنار، كوضوح اختصاص خطاب «لتنقض» أيضاً بمن أيقن الحكم الفعلي وشكّ في بقائه وعدم شموله لغيره.
ولكنّه كما ترى، إذ نقول: إنّه لا مانع من فرض حصول الصفات المزبورةلغير المجتهد أيضاً، كما في كثير من المحصّلين غير البالغين مرتبة الاجتهاد، فإذفرض حينئذٍ شمول إطلاقات أدلّة الأمارات والاُصول لمثله يتعدّى إلىالعامّيالمحض بعدم القول بالفصل.
وأمّا شبهة عدم تمكّنه من الفحص عن الأدلّة والبحث فيها فتندفع بقيامالمجتهد مقامه بمقتضى أدلّة الإفتاء والاستفتاء، فيكون فحصه عن الدليل وعنالمعارض فحصه، وترجيحه لأحد الخبرين ترجيحه، بل بهذا الاعتبار يكونيقينه وشكّه أيضاً بمنزلة يقينه وشكّه في شمول إطلاقات الأدلّة، بلا احتياج إلىإتعاب النفس في التشبّث بعدم الفصل.
مع أنّه يمكن فرض حصول اليقين والشكّ للعامّي المحض أيضاً في الشبهاتالحكميّة بعين فرض حصولها للمجتهد، فإنّه كما أنّ المجتهد برجوعه إلى الأدلّة